المقدمة
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران /102 .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء /1 .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} الأحزاب /70، 71 .
أما بعد:
فإن ظاهرة ضعف الإيمان مما عم وانتشر في المسلمين، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتترد عباراتهم: " أحس بقسوة في قلبي " " لا أجد لذة للعبادات " " أشعر أن إيماني في الحضيض "، " لا أتأثر بقراءة القرآن "، " أقع في المعصية بسهولة "، وكثيرون آثار المرض عليهم بادية، وهذا المرض أساس كل مصيبة وسبب كل نقص وبلية .
وموضوع القلوب موضوع حساس ومهم، وقد سمي القلب قلباً لسرعة تقلبه قال عليه الصلاة والسلام: (إنما القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2364 . وفي رواية (مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة الريح ظهراً لبطن) . أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 227 وإسناده صحيح: ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني 1/102 .
وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً) المرجع السابق رقم 226 وإسناده صحيح: ظلال الجنة 1/102 . وفي رواية (أشد تقلباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً) رواه أحمد 6/4 وهو في صحيح الجامع رقم 5147 . والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) رواه مسلم رقم 2654 .
وحيث (أن الله يحول بين المرء وقلبه) وأنه لن ينجو يوم القيامة (إلا من أتى الله بقلب سليم) وأن الويل (للقاسية قلوبهم من ذكر الله) وأن الوعد بالجنة لـ (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) كان لابد للمؤمن أن يتحسس قلبه ويعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عله الران فيهلك والأمر عظيم والشأن خطير فإن الله قد حذرنا من القلب القاسي والمقفل والمريض والأعمى والأغلف والمنكوس والمطبوع المختوم عليه .
وفيما يلي محاولة للتعرف على مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسبابه وعلاجه، أسأل الله أن ينفعني بهذا العمل وإخواني المسلمين وأن يجزي بالجزاء الأوفى من ساهم في إخراجه وهو سبحانه المسؤول أن يرقق قلوبنا ويهدينا إنه نعم المولى وهو حسبنا ونعم الوكيل .
أولاً: مظاهر ضعف الإيمان
إن مرض ضعف الإيمان له أعراض ومظاهر متعددة فمنها:
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات: ومن العصاة من يرتكب معصية يصر عليها ومنهم من يرتكب أنواعاً من المعاصي، وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها عادة مألوفة ثم يزول قبحها من القلب تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا، وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه) رواه البخاري: فتح 10/486 .
2- ومنها: الشعور بقسوة القلب وخشونته: حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء، والله جل وعلا يقول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } البقرة /74، وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات ولا الجنائز، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب، ولكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار .
3- ومنها: عدم إتقان العبادات: ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار، فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة هذا إذا حافظ عليها، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السنة فإنه لا يفكر في معاني هذا الدعاء والله سبحانه وتعالى: (… لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه) رواه الترمذي رقم 3479 وهو في السلسة الصحيحة 594 .
4- ومن مظاهر ضعف الإيمان: التكاسل عن الطاعات والعبادات، وإضاعتها، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} النساء /142 . ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر، فقد يؤخر الحج وهو قادر ويتفارط الغزو وهو قاعد، ويتأخر عن صلاة الجماعة ثم عن صلاة الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يخلفهم الله في النار) رواه أبو داود رقم: 679 وهو في صحيح الترغيب رقم 510 . ومثل هذا لا يشعر بتأنيب الضمير إذا نام عن الصلاة المكتوبة، وكذا لو فاتته سنة راتبة أو وِرْد من أوراده فإنه لا يرغب في قضائه ولا تعويض ما فاته، وكذا يتعمد تفويت كل ما هو سنة أو من فروض الكفاية، فربما لا يشهد صلاة العيد (مع قول بعض أهل العم بوجوب شهودها) ولا يصلي الكسوف والخسوف، ولا يهتم بحضور الجنازة ولا الصلاة عليها، فهو راغب عن الأجر، مستغن عنه على النقيض ممن وصفهم الله بقوله: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) الأنبياء /90 .
ومن مظاهر التكاسل في الطاعات، التكاسل عن فعل السنن الرواتب، وقيام الليل، والتبكير إلى المساجد وسائر النوافل فمثلاً صلاة الضحى لا تخطر له ببال فضلاً عن ركعتي التوبة وصلاة الاستخارة .
5- ومن المظاهر: ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب سماحة نفسه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم، الإيمان بقوله: (الإيمان: الصبر والسماحة) السلسلة الصحيحة رقم 554، 2/86 . ووصف المؤمن بأنه: (يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) السلسلة الصحيحة رقم 427 .
6- ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم التأثر بآيات القرآن، لا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا في وصفه للقيامة، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه .
7- ومنها: الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى: فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي وقد وصف الله المنافقين بقوله: (ولا يذكرون الله إلا قليلاً) النساء /142 .
8- ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل لأن لهب الغيرة في القلب قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها } أي: دخلت فيه دخولاً تاماً { نكت فيه نكتة سوداء } أي: نقط فيه نقطة { حتى يصل الأمر إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (أسود مربادا { بياض يسير يخالطه السواد } كالكوز مجخياً { مائلاً منكوساً } لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) رواه مسلم رقم 144 . فهذا زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي . بل إنه ربما سمع بالمنكر يعمل في الأرض فيرضى به فيكون عليه من الوزر مثل وزر شاهده فأقره كما ذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة أنكرها - كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) رواه أبو داود رقم 4345، وهو في صحيح الجامع 689 . فهذا الرضا منه وهو - عمل قلبي - أورثه منزلة الشاهد في الإثم .
9- ومنها حب الظهور وهذا له صور منها:
- الرغبة في الرئاسة والإمارة وعدم تقدير المسؤولية والخطر، وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئس الفاطمة) (قوله: نعم المرضعة أي أولها لأن معها المال والجاه واللذات، وقوله: بئس الفاطمة أي: آخرها لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة) رواه البخاري رقم 6729 . وقال عليه الصلاة والسلام: (إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي، أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل) رواه الطبراني في الكبير 18/72 وهو في صحيح الجامع 1420 . ولو كان الأمر قياماً بالواجب وحملاً للمسؤولية في موضع لا يوجد من هو أفضل منه مع بذل الجهد والنصح والعدل كما فعل يوسف عليه السلام إذاً لقلنا أنعم وأكرم، ولكن الأمر في كثير من الأحيان رغبة جامحة في الزعامة وتقدم على الأفضل وغمط أهل الحقوق حقوقهم واستئثار بمركز الأمر والنهي .
- محبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام وفرض الاستماع على الآخرين وأن يكون الأمر له، وصدور المجالس هي المحاريب التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب -) رواه البيهقي 2/439 وهو في صحيح الجامع 120 .
- محبة أن يقوم له الناس إذا دخل عليهم لإشباع حب التعاظم في نفسه المريضة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يمثل "ي ينتصف ويقوم " ه عباد الله قياماً فليتبوأ بيتاً من النار) رواه البخاري في الأدب المفرد 977 انظر السلة الصحيحة 357 . ولذلك لما خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير { وفي رواية: وكان أرزنهما } فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) رواه أبو داود رقم 5229 والبخاري في الأدب المفرد 977 وهو في السلسلة الصحيحة 357 . ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب لو طبقت السنة فبدئ باليمين، وإذا دخل مجلساً فلا يرضى إلا بأن يقوم أحدهم ليجلس هو رغم نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه) رواه البخاري فتح 11/62 .
10- ومنها: الشح والبخل ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شح أنفسهم ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) رواه النسائي: المجتبي 6/13 وهو في صحيح الجامع 2678 . أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا) رواه أبو داود 2/324 وهو في صحيح الجامع رقم 2678 . وأما البخل فإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله ولو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه المسلمين وحلت بهم المصائب، ولا أبلغ من كلام الله في هذا الشأن قال عز وجل: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) سورة محمد /38 .
11- ومنها: أن يقول الإنسان ما لا يفعل قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف /2، 3 . ولا شك أن هذا نوع النفاق، ومن خالف قوله عمله صار مذموماً عند الله مكروهاً عند الخلق، وأهل النار سيكتشفون حقيقة الذي يأمر بالمعروف في الدنيا ولا يأتيه، وينهاهم عن المنكر ويأتيه .
12- ومنها: السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة، فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه .
13- ومن مظاهر ضعف الإيمان: النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط وغض البصر عن فعل المكروه، فبعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً من الأعمال لا يسأل عن أعمال البر وإنما يسأل: هل هذا العمل يصل إلى الإثم أم لا؟ هل هو حرام أم أنه مكروه فقط ؟ وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في شرك الشبهات والمكروهات، مما يؤدي إلى الوقوع في المحرمات يوماً ما، فصاحبها ليس لديه مانع من ارتكاب عمل مكروه أو مشتبه فيه ما دام أنه ليس محرماً، وهذا عين ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ..) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم رقم 1599 بل إن بعض الناس إذا استفتى في شيء وأخبر أنه محرم، يسأل هل حرمته شديدة أو لا ؟! وكم الإثم المترتب عليه ؟ فمثل هذا لا يكون لديه اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات بل عنده استعداد لارتكاب أول مراتب الحرام، واستهانة بمحقرات الذنوب مما ينتج عنه الاجتراء على محارم الله، وزوال الحواجز بينه وبين المعصية ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً) قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال: (أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلو بمحارم الله انتهكوها) رواه ابن ماجة رقم 4245 قال في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات وهو في صحيح الجامع 5028 .
فتجده يقع في المحرم دون تحفظ ولا تردد، وهذا أسوأ من الذي يقع في الحرام بعد تردد وتحرج وكلا الشخصين على خطر، ولكن الأول أسوأ من الثاني، وهذا النوع من الناس يستسهل الذنوب نتيجة لضعف إيمانه ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن وحال المنافق بقوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا) أي دفعه بيده . رواه البخاري فتح 11/102، وانظر تغليق التعليق 5/136 المكتب الإسلامي .
14- ومنها: احتقار المعروف، وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن لا نكون كذلك فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي جري الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله ؟ إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به فقال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسطاً) مسند أحمد 5/63 وهو في السلسلة الصحيحة 1352 . فلو جاء يريد أن يستسقي من بئر وقد رفعت دلوك فأفرغته له، فهذا العمل وإن كان ظاهره صغيراً لا ينبغي احتقاره، وكذا لقيا الأخ بوجه طلق، وإزالة القذر والأوساخ من المسجد، وحتى ولو كان قشة فلعل هذا العمل يكون سبباً في مغفرة الذنوب، والرب يشكر لعبده مثل هذه الأفعال فيغفر له، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأًدخل الجنة) رواه مسلم رقم 1914 .
إن النفس التي تحقر أعمال الخير اليسيرة فيه سوء وخلل ويكفي في عقوبة الاستهانة بالحسنات الصغيرة الحرمان من مزية عظيمة دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (من أماط أذى عن طريق المسلمين كتب له حسنة ومن تقبلت له حسنة دخل الجنة) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 593 وهو في السلسلة الصحيحة 5/387 . وكان معاذ رضي الله عنه يمشي ورجل معه فرفع حجراً من الطريق فقال { أي الرجل } ما هذا ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رفع حجراً من الطريق كتب له حسنة ومن كانت له حسنة دخل الجنة) المعجم الكبير للطبراني 20/101، السلسلة الصحيحة 5/387 .
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها بدعاء ولا صدقة ولا إعانة، فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم من تسلط العدو والقهر والاضطهاد والكوارث، فيكتفي بسلامة نفسه، وهذا نتيجة ضعف الإيمان، فإن المؤمن بخلاف ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) مسند أحمد 5/340 وهو في السلسلة الصحيحة 1137 .
16- ومن مظاهر ضعف الإيمان: انفصام عرى الأخوة بين المتآخيين، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب { وفي رواية: ففرق بينهما إلا بذنب } يحدثه أحدهما) البخاري في الأدب المفرد رقم 401 وأحمد في المسند 2/68 وهو في السلسلة الصحيحة 637 . فهذا دليل على شؤم المعصية قد يطال الروابط الأخوية ويفصمها، فهذه الوحشة التي يجدها الإنسان بينه وبين إخوانه أحياناً هي نتيجة لتدني الإيمان بسبب ارتكاب المعاصي لأن الله يسقط العاصي من قلوب عباده، فيعيش بينهم أسوأ عيش ساقط القدر زري الحال لا حرمة له، وكذلك يفوته رفقة المؤمنين ودفاع الله عنهم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا .
17- ومنها: عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا لدين، فلا يسعى لنشره ولا يسعى لخدمته على النقيض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لما دخلوا في الدين شعروا بالمسئولية على الفور، وهذا الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كم كان بين إسلامه وذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل ؟! لقد نفر على الفور لدعوة قومه، وبمجرد دخوله في الدين أحس أن عليه أن يرجع إلى قومه فرجع داعية إلى الله سبحانه وتعالى، والكثيرون اليوم يمكثون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى وصولهم إلى مرحلة الدعوة إلى الله عز وجل .
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقومون بما يترتب على الدخول في الدين من معاداة الكفار والبراءة منهم ومفاصلتهم، فهذا ثمامة بن أثال رضي الله عنه - رئيس أهل اليمامة - لما أسر وجيء به فربط إلى المسجد وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم وذهب إلى العمرة فلما وصل مكة قال لكفار قريش: " لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري فتح 8/87 . فمفاصلته للكفار ومحاصرته لهم اقتصادياً وتقديم كافة الإمكانات المتاحة لخدمة الدعوة حصلت على الفور، لأن إيمانه الجازم استوجب منه هذا العمل .
18- ومن مظاهره الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة فتراه مرتعد الفرائص، مختل التوازن، شارد الذهن، شاخص البصر، يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية فتنغلق في عينيه المخارج وتركبه الهموم فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت، وقلب قوي وهذا كله بسبب ضعف إيمانه، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً، ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات .
19- ومنها: كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل) رواه أحمد في المسند 5/252 وهو في صحيح الجامع 5633 . فالجدل بغير دليل ولا قصد صحيح يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم، وما أكثر جدال الناس اليوم بالباطل يتجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويكفي دافعاً لترك الخصلة الذميمة قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
20- ومنه: التعلق بالدنيا، والشغف بها، والاسترواح إليها، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه مغبوناً سيء الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره، ويحس بألم وانقباض أعظم إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا، وقد يحسده، ويتمنى زوال النعمة عنه، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد) . رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
21- ومنها: أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلي البحت ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً لنص من القرآن أو السنة أو كلام السلف رحمهم الله .
22- ومنها: المغالاة في الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً، فتجده يهتم بالكماليات اهتماماً بالغاً، فينمق هندامه ويجهد نفسه بشراء الرقيق من اللباس ويزوق مسكنه وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات، وهي مما لا ضرورة له ولا حاجة - مع أن من إخوانه المسلمين من هم في أشد الحاجة لهذه الأموال - ويعمل هذا كله حتى يغرق في التنعيم والترفه المنهي عنه كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأوصاه فقال: (إياك والتنعيم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) رواه أبو نعيم في الحلية 5/155 وهو في السلسلة الصحيحة 353 وعند أحمد بلفظ إياي: المسند 5/243 .