إذا الإيمانُ ضاع
إن ما نعيشهُ من السّقوط كلّ يوم و من الخسائر في الدّم والشرف والمال ، إنّما هو مُتَطلّبُ الأمر الواقع ، ثمّ هو بعد ذلك نتيجةٌ حتميّةٌ لسلسلةِ هزائمنا المستمرّة أمام حقيقةِ أنفسنا ، هذه الحقيقة التي قتلناها بأيدينا ألفَ مرّةٍ و مرّة ، هذه الحقيقة التي جعلتْ منّا في أيّامٍ خلَتْ أساتذةً في فنونِ الشّجاعةِ و الفداء ، إنّها حقيقةُ الإيمان بالله تعالى.
و مهما حاولنا أنْ نرتفعَ بغيرِ هذه الحقيقة ، أنزلنا التّاريخُ في مَوْحلتِهِ كلَّ منـزل.
إنّ أمّةً باعتْ دماءَ شهدائها بنفطٍ و غاز ، ليستْ أهلاً لأنْ يلمعَ على رأسها تاجْ ، عرف هذا من عرف و جهله من جهل.
إنّ هذه الأمة التي حملتْ الخيرَ للناس ، و انبعثتْ من رمادِ الحياة لتنصبَ راياتِها في غرناطةٍ و بخارى ، إنّما هي أمّةٌ أعزّها اللهُ بحملِ رسالتِهِ للعالمين ، و خلعَ عليها خِلعةَ الإسلام الذي جعل من حُفاتها العراةِ القُساة أساتذةَ الخلاق و رجالَ الكمالات .
فكان الفاروقُ عمر الذي جعل من رقاعِ ثوبِه شيئاً يذكرُهُ التّاريخُ أكثرَ ممّا يذكرُ مدائنَ كسرى ، و كانتْ دُرّتُه أهيبَ في قلوبِ النّاس و في عيونِ الأمم مِن أسلحتنا المنتشرةِ من المحيطِ إلى الخليجِ اليوم و التي أتخمها الصّدأُ و لعبَ فيها الهوان .
و كان قتيبةُ بنُ مسلم الذي داسَ ترابَ الصّينِ بنعليْ فقير ، و كان هارون الرّشيد الذي كان يقولُ للسّحابة إذا مرّتْ فوق بغداد: «أمطري حيثُ شئتِ فسيأتيني خَراجُك».
و اليوم:
ياخجلتي حين الرّشيدُ يعودُ من *** سَفَرٍ و يسألُ أينها بغدادُ ؟
مرّتْ غيومٌ في السّماءِ وأمطرتْ *** لكنْ جُباةُ خَراجها ما عادوا
أيها السّادة: إنّ ألفَ تحليلٍ سياسيٍّ و عسكريٍّ و ألفَ مؤتمرِ قمّة لا تساوي عند الله و التّاريخ حزاماً ناسفاً يلتفُّ على صدرِ عابرٍ إلى الشّهادة ، لا لأنّه سيقتلُ واحداً أو عشرةً من أعدائنا ، و لكنْ لأنّه الخطوةُ الأولى على طريقِ المعرفة ..... معرفةِ الحقيقة .
نعم يا سادة «عندما تموتُ الفكرةُ يبرزُ الصّنم».
و ها نحن اليوم نغتالُ عقيدتَنا ، لتعلوَ فوقَ رؤوسنا أصنامُ القادمين من وراءِ البحار و الذين كانوا في يومٍ مضى يؤدّونَ لنا الجزيةَ عن يدٍ و هم صاغرون .
و لكن كما قالَ شاعرُ الإسلام " محمد إقبال " رحمه الله :
إذا الإيمانُ ضاعَ فلا أمانٌ *** و لا دنيا لمنْ لمْ يحيِ دينا
فإذا ما خلعتْ هذه الأمةُ ثوبَ الإسلام ، فلا بدّ أن تردّى بعد ذلك من على قمّةِ الكرامةِ نازلةً إلى وهدةِ الذّلِّ و الهوان ، ثمّ تجعلُ من نفسها مأكلةً لضواري الأمم كما أنبأَ بذلك الصّدقُ المصدوق رسولُ الله صلّى الله عليهِ و سلّم
المصدر: الفسطاط