قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء:1]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[الأحزاب:70-71].
قد فرض الله صوم رمضان، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183]، وجعل في هذه الفريضة المباركة-مع ما فيها من عبودية واختبار- من الأسرار والحكم ما يرشد الواقف عليها والمتأمل والناظر إلى المشرع الحكيم سبحانه وتعالى، ولربما كانت هذه المسألة مستغربة، لكن الحقيقة خلاف ذلك، فكما أن المرض يدخل على الصيام فيكون سبباً في حصول الترخص بالفطر، فإن الصيام يدخل على المرض فيكون سبباً في حصول الصحة والعافية بأذن الله عز وجل، ودليل ذلك الشرع والطب، فقد جاء فيهما:
1- ما يرشد إلى التخفيف من الطعام: قال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾[ الأعراف: 31]، وقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس" فهذا الحديث يشير إلى أن الإكثار من الطعام يضر، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الطب: «وأربعة أشياء تمرض الجسم: الكلام الكثير، والنوم الكثير، والأكل الكثير، والجماع الكثير... والأكل الكثير يفسد فم المعدة، ويضعف الجسم، ويولد الرياح الغليظة، والأدواء العسرة».
وقال أيضاً: «وقال بعض الملوك لطبيبه لعلك لا تبقى لي فصف لي صفة آخذها عنك فقال: ... ولا تأكلن حتى تجوع، ولا تأكلن طعاماً وفي معدتك طعام، وإياك أن تأكل ما تعجز أسنانك عن مضغه فتعجز معدتك عن هضمه».
2- ما يدل على أن الصيام صحة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا".
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فقد صح معناه، وقد أشتهر عن المعدة بأنها بيت الداء.
قال ابن القيم: «اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة».
وقال أيضاً: «وفي الصوم الشرعي من أسباب حفظ الصحة ورياضة البدن والنفس ما لا يدفعه صحيح الفطرة».
وقال البروفيسور نيكولا يف بيلوي من موسكو في كتابة الجوع من أجل الصحة 1976: «على كل إنسان وخاصة سكان المدن الكبرى أن يمارس الصوم بالامتناع عن الطعام لمدة 3 - 4 أسابيع كل سنة كي يتمتع بالصحة الكاملة طيلة حياته».
3- ما يدل على أن الصيام وقاية:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، والجُنة هي الوقاية.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: « الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن منافعه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها ولا سيما إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعاً وحاجة البدن إليه طبعاً، ثم إن فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها، وفيه خاصية تقتضي إيثاره وهي تفريحه للقلب عاجلاً وآجلاً، وهو أنفع شيء لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة وله تأثير عظيم في حفظ صحتهم».
وقال في الطب وهو يتحدث عن الصيام: « ويحفظ الصائم مما ينبغي أن يتحفظ منه، ويعينه على قيامه بمقصود الصوم وسره وعلته الغائية، فإن القصد منه أمر آخر وراء ترك الطعام والشراب، وباعتبار ذلك الأمر اختص من بين الأعمال بأنه لله سبحانه، ولما كان وقاية وجنة بين العبد وبين ما يؤذى قلبه وبدنه عاجلا وآجلا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[ البقرة: 183] فأحد مقصودي الصيام الجنة والوقاية وهي حمية عظيمة النفع».
أسرار الصوم في الطب:
1- تخليص الجسم من السموم ومنع تراكمها: يقول ماك فادون-من علماء الصحة الأمريكيين-: «إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضا؛ لأن سموم الأغذية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض فتثقله ويقل نشاطه، فإذا صام خف وزنة وتحللت هذه السموم من جسمه وتذهب عنة حتى يصفو صفاء تاماً ويستطيع أن يسترد وزنة ويجدد خلاياه في مدة لا تزيد عن عشرين يوماً بعد الإفطار، لكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل».
2- تنظيف أنسجة الجسم وتبديلها:
قال الكسيس كاريل -الحائز على جائزة نوبل في الطب-: «إن كثرة وجبات الطعام ووفرتها تعطل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء الأجناس الحيوانية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يصومون على مر العصور، وإن الأديان كافة لا تفتأ تدعو الناس إلى وجوب الصوم والحرمان من الطعام لفترات محدودة، إذ يحدث في أول الأمر شعور بالجوع، ويحدث أحياناً تهيج عصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير، فإن سكّر الكبد يتحرك ويتحرك معه أيضا الدهن المخزون تحت الجلد، وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة من أجل الإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب، وإن الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا».
3- الصوم يطهر الجسم من الفضلات والخلايا التالفة:
حيث يقوم الجسم أثناء الصوم وعند الجوع باستخراج المخزون الغذائي الفاسد واستهلاكه، وكذلك يقوم باستهلاك الخلايا التالفة، وعند الإفطار يبادر إلى تبديل ذلك المخزون بمخزون جديد وتلك الخلايا بغيرها.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «وله تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولا سيما إذا كان باعتدال وقصد».
والأبحاث العلمية أثبتت أن الصيام ليوم واحد يطهر الجسم من فضلات عشرة أيام، وبهذا تتجلى معجزة علمية باهرة تشهد على قدرة إلهية قاهرة وأن هذا التشريع من عند الله عز وجل وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينطق بوحي الله عز وجل حين قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".
فإن صوم الشهر ينظف الجسم ويطهره من فضلات عشرة أشهر، والست تنظف الجسم وتطهره من فضلات شهرين، فمن صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال نظف جسده وطهره من فضلات سنة فكان كأنه صام السنة، وكذلك في الأجر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وكذلك من صام ثلاثة أيام من كل شهر، فصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله الحكيم.
4- توفير الطاقة والجهد للجسم:
قال ابن القيم: « ثم إن فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها ».
ويقول الدكتور ليك: « يوفر للجسم بفضل الصوم الجهد والطاقة المخصصة للهضم، ويدخرها لنشاطات أخرى ذات أولوية وأهمية قصوى كالتئام الجروح، ومحاربة الأمراض».
5- يعمل على صفاء وتوقد الذهن وإقبال القلب:
قال ابن القيم: «فأحد مقصودي الصيام الجنة والوقاية وهى حمية عظيمة النفع، والمقصود الآخر اجتماع القلب والهم على الله تعالى، وتوفير قوى النفس على محابه وطاعته».
يقول توم برنز: « فعلى الرغم أنني بدأت الصوم بهدف تخلص جسدي من الوزن الزائد إلا أنني أدركت أن الصوم نافع جدا لتوقد الذهن، فهو يساعد على الرؤية بوضوح أكبر، وكذلك على استنباط الأفكار الجديدة، وتركيز المشاعر، فلم تكد تمضي عدة أيام من صيامي في منتجع بولنج الصحي حتى شعرت أني أمر بتجربة سمو روحي هائلة».
6- الوقاية من مجموعة من الأمراض الخطيرة، ومنها:
1- مرض السكر: إذ يعطي الصوم للبنكرياس - الذي يفرز هرمون الأنسولين الذي يحول السكر إلى مواد نشوية ودهنية تخزن في الأنسجة- فرصة للراحة والعمل على تنظيم نسبة السكر في الدم بسبب قلة الطعام؛ لأن الطعام إذا زاد عن كمية الأنسولين المفرزة تصاب البنكرياس بالإرهاق والتعب، ثم أخيرا يعجز عن القيام بوظيفته فيتراكم السكر في الدم، وتزيد معدلاته بالتدريج حتى يظهر مرض السكر.
2- مرض السمنة: لأنها تحصل بالإكثار من الطعام، وهي سبب رئيسي للكثير من الأمراض فكان الصوم وسيلة وسببا للوقاية منها إذ فيه وضع للحد من كثرة الأكل.
3- داء الملوك: وهو المسمى (مرض النقرس) والذي ينتج عن زيادة التغذية واللحوم، ومعه يحدث خلل في تمثيل البروتينات المتوافرة في اللحوم خاصة الحمراء داخل الجسم مما ينتج عنة زيادة ترسيب حمض البوليك في المفاصل خاصة مفصل الأصبع الكبير للقدم، وعند إصابة مفصل بالنقرس فإنه يتورم ويحمر ويصاحب هذا ألم شديد، وقد تزيد كمية أملاح البول في الدم ثم تترسب في الكلى فتسبب الحصوة.
4- جلطة القلب والمخ: أكد الكثير من أساتذة الأبحاث العلمية والطبية بأن الصوم الذي ينقص من كمية الدهون في الجسم يؤدي إلى نقص مادة الكوليسترول التي تترسب على جدار الشرايين، والتي بزيادة معدلاتها مع زيادة الدهون في الجسم تؤدي إلى تصلب الشرايين، كما تسبب تجلط الدم في شرايين القلب والمخ.
5- آلام المفاصل: إذ ثبت بالتجارب العلمية في بلاد روسيا أنه يمكن أن يكون الصيام علاجاً حاسما لهذا المرض، وقد أرجعوا هذا إلى أن الصيام يخلص الجسم تماما من السموم والمواد الضارة، وذلك بصيام متتابع لا تقل مدته عن ثلاثة أسابيع، وفي هذه الحالة فإن الجراثيم التي تسبب هذا المرض تكون جزء مما يتخلص منه الجسم أثناء الصيام.
6- الأورام: حيث يزيل الخلايا التالفة والضعيفة من الجسم والتي يستهلكها الجسم عند الجوع كما يستهلك الأعضاء المريضة ويجدد خلاياها، ووقاية للجسم من كثير من الزيادات الضارة مثل الحصوة والزوائد اللحمية والأكياس الدهنية، وكذلك الأورام في بداية تكونها، وغير ذلك كالأمراض الالتهابية إذ يعمل الصوم على رفع المناعة في الجسم إلى مائة ضعف.
تنبيهات:
الأول: الصوم الطبي الذي قامت عليه دراسات الغرب: هو الإقلاع عن الطعام كليا أثناء النهار، ولا يسمح إلا بيسير من الماء إذا ما أحس بعطش شديد ودعت الضرورة القصوى إليه، وفي المساء يعطى وجبة واحدة تتألف من كوب من الحليب أو شربة خضار و100غ من اللحم أو الدجاج أو السمك، ثم بعض الفواكه، وتكون هذه الوجبة الوحيدة خلال يوم وليلة.
الثاني: الصوم الشرعي إمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الفجر إلى الغروب من دون تحديد لنوع معين من الغذاء، مع الحث على الاعتدال وعدم الإسراف، والحث على التعجيل بالإفطار عند تحقق الغروب، وتأخير السحور، والفرض هو شهر واحد مع النهي عن الوصال في الصوم، والنهي عن صيام الدهر.
الثالث: الصوم الشرعي أكمل وأحكم وأنفع وأصح من الصوم الطبي، وهذا هو المشاهد من نتائج الصوم الطبي، فهو مع نجاحه إلا أنه نجاح قاصر؛ لما يسببه التقيد بنوع معين من الطعام مع طول الفترة فيه إلى مضاعفات سلبية على الجسم، والسبب في ذلك أنه من عند البشر، فهو ناقص ومستمد نقصه من نقص من وضعه؛ لجهل الإنسان بكل أسرار الكون والتشريع، بينما نجد الصوم الشرعي يستمد كماله من كمال المشرع سبحانه وتعالى وكمال علمه وإحاطته سبحانه جل في علاه القائل: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾[ البقرة: 255]، وهنا يظهر الإعجاز العلمي والتشريعي في توقيت الصيام من الفجر إلى الغروب من غير تحديد صنف معين من الغذاء مع الحث على الاعتدال وعدم الإسراف، وتظهر حكمة التعجيل بالإفطار عند تحقق الغروب، وتأخير السحور، وحكمة الفرض لشهر واحد مع الحث على المحافظة على نوافل الصيام؛ لتتجدد للجسم منافعه، والحث على الاقتصاد فيه؛ حتى لا يتضرر به فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله، قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم صوم داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى"، فلما كبر عبد الله، وضعف جسده كان يقول: ليتني قبلت الرخصة، فهو تشريع وسط بين الغلو والتفريط.
فائدة:
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «وفي فطر النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم عليه [أي الرُطب]، أو على التمر ، أو الماء تدبير لطيف جداً فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا تجد الكبد فيها ما تجذبه وترسله إلى القوى والأعضاء، والحلو أسرع شيء وصولا إلى الكبد، وأحبه إليها ولا سيما إن كان رطبا فيشتد قبولها له فتنتفع به هي والقوى، فإن لم يكن فالتمر لحلاوته وتغذيته، فان لم يكن فحسوات الماء؛ تطفئ لهيب المعدة، وحرارة الصوم فتنتبه بعده للطعام، وتأخذه بشهوة