لاشك أن المظاهر الحضارية في العمران والرعاية الصحية وكثرة التأليف وغيرها في الغرب الإسلامي زمن الازدهار ترتكز على بنية علمية متينة في مختلف المجالات ، سواء من حيث المناهج، أو التنوع أو التشجيع وانتشار المعاهد من جوامع و كتاتيب و مدارس و مجالس الخلفاء و الوزراء.
وقد عرفت المدارس مثلا في عهد الموحدين تنوعا مهما فكان منها : المدرسة العامة لتخريج الموظفين، والمدرسة الملكية لتعليم أمراء الموحدين، و مدرسة تعليم الملاحة وغيرها من المدارس التي عرفت انتشارا واسعا ليس في المغرب فحسب و إنما في إفريقية و الأندلس.
ويذكر صاحب الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية نموذجا لمنهاج المدرسة العامة لتخريج الموظفين بمراكش، قال فيه :" ووقف عبد المومن الحفاظ صغار الطلبة لحفظ (كتاب الموطأ) هو "كتاب أعز ما يطلب" وغير ذلك من تواليف المهدي.
وكان يدخلهم كل يوم جمعة بعد الصلاة داخل القصر، فيجتمع الحفاظ فيه وهم نحو ثلاثة آلاف كأنهم أبناء ليلة من المصامدة وغيرهم , قصد بهم سرعة الحفظ و التربية على ما يريده ، فيأخذهم يوما بتعليم الركوب , ويوما بالرمي بالقوس ، ويوما بالعوم في بحيرة صنعها خارج بستانه مربعة ، طول تربيعها نحو ثلاثمائة باع ، و يوما يأخذهم بأن يحذقوا على قوارب و زوارق صنعها لهم في تلك البحيرة فتأدبوا بهذه الآداب، تارة بالعطاء و تارة بالأدب , وكانت نفقتهم وسائر مئونتهم من عنده، وخيلهم وعددهم كذلك ، ولما كمل له هذا المراد فيهم عزل بهم أشياخ المصامدة عن ولاية الأعمال و الرئاسة ، وقال : العلماء أولى منكم فسلموا له.
وقد أسس عبد المومن عدة مدارس بمراكش واستدعى ابن رشد الحفيد ليستعين به على تنظيمها ووضع مناهجها.
وعرفت المجامع العلمية ازدهارا كبيرا سواء منها مجامع الخلفاء أو الأمراء التي يعقدونها مع أشياخ علماء الموحدين , وكبار العلماء من الواردين عليهم من مختلف الجهات والتي كانت حافلة بالمذاكرة والمناظرة في أنواع العلوم : عربية ، فقه أصول ، طب ، فلسفة ، وغيرها ، وكان لكل فن مجلس يفتتح بإلقاء مسألة من العلم يلقيها الخليفة بنفسه أو بإذن بعض الحاضرين وكانت مطبوعة بالنظام والتزام الجد و المحافظة على الآداب، وتختم بالدعاء يدعو الخليفة ويؤمن الوزير.
وكانت العادة أن لا ينتصب للتدريس في الجوامع إلا من انتهت إليه المهارة في العلم والدين في وقته ، ويذكر صاحب المعجب أنه كان في قرطبة وحدها ثلاثة آلاف مقلس , وكان لا يتقلس عندهم في ذلك الزمان إلا من صلح للفتيا. وكان في حي واحد من أحياء قرطبة 170 امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي.
وعموما كما قال إرنست رينان وهو يتحدث عن الأندلس زمن الموحدين : فقد "قام في هذه الزاوية الممتازة من العالم تسامح لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرض مثيلا له علينا ، وذلك أن النصارى واليهود والمسلمين كانوا يتكلمون بلغة واحدة ، وينشدون عين الأشعار ، و يشتركون في ذات المباحث الأدبية والعلمية ، وقد زالت جميع الحواجز التي تفصل بين الناس , فقد كان الجميع متفقين على الجد في حقل الحضارة المشترك , وتغدو مساجد قرطبة ، التي كان الطلاب فيها يعدون بالألوف مراكز فعالة للدراسات الفلسفية و العلمية…" (ابن رشد والرشدية:ص:25).
ويروي ياقوت الحموي وهو يتحدث عن بعض جهات الأندلس بأنه قل أن ترى من لا يقول شعرا , ولا يعاني أدبا ولو مررت بفلاح خلف فدانه وسألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه في أي معنى طلبت منه(معجم البلدان: ج3/ص357-358).
ذلك أن اللغة العربية كانت وحدها وسيلة المعارف لجميع الأجناس , وكان النصارى واليهود يؤلفون بها , وشبابهم يتباهى بمعرفة العربية وآدابها , ويقبل على ما يؤلف بها بما فيها مؤلفات الفقه.
ويكفي لنعرف المستوى الذي وصل إليه العلم والتعلم أن النساخ بقرطبة وصل بهم الأمر أن عجزوا بالوفاء بكفاية العلماء والأطباء والفلاسفة واستدعي النساخ من بغداد و من أنحاء العالم الإسلامي ، كما ظلت مصانع الورق بشاطبة وطليطلة وقفا على قرطبة..
كما ازدهرت صناعة تجليد الكتب ازدهارا كبيرا، حيث كان الإقبال على اقتنائها سواء من الناس من يقرأ وحتى ممن لا يقرأ , كما يقول صاحب نفح الطيب.
فلا عجب بعد هذا أن تكون قرطبة في زمان الموحدين كما أورد هذا الأخير و"كانت بحق مركز الكرماء و معدن العلماء" و"منتهى الغاية , ومركز الراية , وأم القرى , وقرارة أولي الفضل والتقى , ووطن أولي العلم والنهى , وقلب الإقليم , وينبوعا متفجرا للعلوم , وقبة الإسلام وحضرة الإمام , ودار صوب العقول , وبستان ثمر الخواطر , وبحر درر القرائح, ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر , وفرسان النظم والنثر , وبها أنشئت التأليفات الرائقة , وصنفت التصنيفات الفائقة
وقد حاول الخلفاء الموحدون تعميم التعليم على نطاق واسع , و بالغ عبد المومن في التعليم الإجباري فجعله حتما لازما على كل مكلف من الرجال والنساء والأحرار والعبيد .
ورخص لمن يفهم اللسان الأمازيغي دون العربي أن يقرأ بلسانهم عقيدة ابن تومرت الأمازيغية , وتعلم ما يتعلق بالصلاة , وأكد على العوام حفظ : أم القرآن و ما تيسر من القرآن , وكذا مجموع أحاديث الصلاة الذي كان يعقوب المنصور يمليه بنفسه، وكان يجعل لمن حفظه الجعل السني من الكسا والأموال(محمد المنوني حضارة الموحدين ص 27-28).
ذلك بعض تاريخنا في العلم والتعليم لمن أراد أن يصل ما انقطع، ويبني أفضل ما عند أهل زماننا على أحسن ما كان عند أسلافنا؛ للنهوض بهذا القطاع الحيوي بصدق وجدية، من غير اختباء وراء أرقام (منفوخة) لأعداد المتمدرسين من غير جودة أو مضمون.