سور ال عمران من 42 الى51
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ 51) ﴾
الإيمان بالله حقيقة فطرية منغرسة في أعماق النفس البشرية، منذ واثقها ربها في الملأ الأعلى بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ الأعراف 172، وإنما تعتم عليه ظروف من النشأة أو التربية فتخمده لدى الأشقياء. أو يثير الشعور به الاضطرار والإلجاء، أو يوقظه التذكير ويصقله التعليم والعمل فيحيا ويزدهر لدى المصطفين للفضل والتكريم من السعداء.
إن الإنسان مفطور على معرفة خالقه، يُخلق على الإيمان به، أعماقه لا تشك فيه، ولا عبرة بحالات من الغفلة والشرود، وما يرين على القلوب والعقول مما تكسب من آثام وخطايا، ذلك ما بينه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ إبراهيم 10، وقوله: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الروم 30، قال صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ).
ألا ترى أن الله تعالى وقد خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ الغاشية 21، قد أشار إلى أن التذكير إنما يكون بالإيمان المنغرس في القلوب، والفطرة التي فطر عليها الوجدان، وذلك سبيل الرشد والهداية.
ألا ترى إلى المرء تدركه الشدائد فتنقشع الغشاوة عن فطرته المؤمنة بالله ويلجأ إليه متضرعا خائفا ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ يونس 12 .
إلا أن الإيمان الفطري وإن كان مغروسا في النفس البشرية حيا أو خامدا لابد له من رعاية وتقوية وإنماء وتسوية، لكي يبلغ بصاحبه شاطئ النجاة بين يدي ربه. تبدأ مسيرة الإيمان اصطفاء من الله تعالى لعبده الذي سبقت له في علمه الحسنى، ثم يتدرج في معارج التهذيب والتربية ومراقي الإيمان الإرادي تصورا واستدلالا وعبادة، مراحل تربوية تطهيرية للنفوس والجوارح لابد منها لكل نبي ورسول، أو ولي أو سالك طريق إلى ربه.
ألم تسمع قوله تعالى: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر 98/99. فجعل العبادة تسبيحا وصلاة سبيل السالكين إلى درجة اليقين؟ وقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن حقيقة الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؟
ألا ترى إلى موسى وسنواته العشر عند شيخ مدين؟ وإلى رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام متحنثا قبل البعثة في غار حراء؟ وإليه صلى الله عليه وسلم بعدها وقد ( قام حتى تورمت قدماه فقيل له: لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا )، وإليه وقد قالت عائشة رضي الله عنها أنه ( قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال: أفلا أكون عبدا شكورا ؟ لقد نزلت عليَّ الليلةَ آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ... ﴾ آل عمران 190.
أليس ذلك هو الإيمان المفضي إلى عبادة تشغل الجوارحَ بوظائف الأحكام والقلبَ بحقيقة الاستسلام، والروحَ بمشاهدة العزيز العلام ؟.
إنها طريق الأبرار في كل زمان، نَفْضٌ للغبار عن الإيمان المغروس في النفس البشرية منذ أشهدت عليه في الملأ الأعلى، ثم تهذيبٌ وتربية وسلوك ومجاهدة، ثم اختبار ومحنة، ورضوان من الله أكبر، وقبل ذلك اصطفاء من رب العزة، لا يستظل برحمته إلا من يريد، ولا يدخل جنته إلا من يشاء، ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ الزخرف 32، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ هود 107.
على هذا النهج كانت مسيرة البتول اليتمية عليها السلام، مريم بنت عمران، اصطفاها الله تعالى لكرامته، وجعلها خير نساء جنته، استجابة لدعاء أمها، وثمرة لتربية نبي هو زوج خالتها، وخاطبتها الملائكة بأمر ربها مؤذنة باصطفائها واجتبائها:
﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ﴾ ولفظ:" إذ " يفيد أن ظرف الحادثة كان في الماضي، أي: اذكر يا محمد لمجادليك من أهل الكتاب ما وقع من أمر مخاطبة الملائكة لمريم فيما مضى.
أما أصل الصفاء لغة فهو خلوص الشيء مما يكدره، والصفو والصفاء نقيض الكدر، وصُفوة الشيء ما صفا منه، والاصطفاء: تناول صفو الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره.
والآية خطاب من الملائكة لمريم متابعةً لأحكام اصطفاء الله عباده الصالحين، فبعد ذكر آدم ونوح وإبراهيم وآل عمران، يأتي اصطفاء مريم ومِن بعدها عيسى عليهم جميعا صلاة الله وسلامه، اختارها الله تعالى من ذرية عمران استجابة لدعاء والدتها، فأحسن تربيتها وتنشئتها وتعليمها ورزقها وتطهيرها من أدناس الكفر والشرك وأرجاس المعاصي والفواحش، ثم لما حان وقت نقلها إلى مرحلة أبعد وأشرف وأسنى أمر عز وجل كوكبة من الملائكة أن يذكروها بفضل هذا الإصطفاء تثبيتا لها وعونا على تحمل ضريبته وتكاليفه وبلائه.
﴿ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ اصطفاء ثان ولكنه خاص بها، لكرامة أجل وأعلى من بين نساء العالمين بتفضيلها عليهن، وجعلها مع ابنها آية للناس، بعد تكليم الملائكة لها شفاها ورزقها من غير أسباب. ذلك أن اصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالى إياه صافيا لا تشوبه شائبة، ويشترك معه في ذلك غيره، كحالة الاصطفاء للنبوة والأنبياءُ كثير، وكحالة الاصطفاء الأول لمريم للطهارة والعبادة والنشأة الحسنة، وقد يكون اصطفاء لا يشترك معه فيه غيره، كما في الحالة الثانية للصفية مريم عليها السلام لأنها الوحيدة التي تلد بدون أن يمسها بشر ولا تشاركها في هذه الصفة أنثى.
قال صلى الله عليه وسلم : ( سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران: فاطمة وخديجة وآسية امرأة فرعون )، وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد )، وروى الترمذي بإسناد جيد عن أم سلمة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة عام الفتح فناجاها فبكت ثم حدثها فضحكت فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عن بكائها وضحكها، قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت ).
هذه الدرجة الرفيعة التي اختارها الله تعالى لِأَمَتِه التقية مريم، ما كانت لتبلغها بدون جهد ومجاهدة، وتوسل برفيع العبادة، لذلك نادتها الملائكة مرة أخرى تبلغها أمر ربها بمضاعفة السعي والبذل تهجدا وتحنثا وإخباتا وتفرغا للعبادة:
﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ والقنوت هو ملازمة العبادة بخشوع، أي: واظبي على إخلاصك العبادة وأطيلي القيام في مناجاتك وابتهالك وصلاتك.
﴿ وَاسْجُدِي ﴾ قدم السجود على الركوع، إشارة إلى واجب الشكر عليها لما اصطفاها ربها به من تكريم وتفضيل.
﴿ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ أذن لها من دون نساء بني إسرائيل بالصلاة مع الجماعة تفضيلا وتكريما وتشريفا ورفع منزلة.
ثم بالتفات من الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبه ربه تعالى ويزوده بالحجة في مواجهة وفد نجران المسيحي الذي يجادل في مريم مغاليا في محبتها واعتبارها إلهة، واليهود المغالين في كرهها والطعن والتشكيك فيها، ويذكره باصطفاء سابق لها وهي وليدة نُذِرت للمعبد، فاختصم الأحبار أيهم يكفلها، ويقول له عز وجل:
﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى المُعْلَمِ به وهو الخبر عن مريم وزكريا ويحيى.
﴿ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ ولفظ النبأ لا يأتي إلا في الخبر العظيم الذي يتعرى عن الكذب كالخبر من الله تعالى كما في قوله عز وجل: ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ ص 67/68.
والغيب ما استأثر الله بعلمه، وما غاب عن علم الإنسان، أو حجب عنه بحجاب المكان أو الزمان، أو غيرهما، فلم يطلع عليه رؤية أو سماعا أو حضورا، ولا يقال للشيء غيب إلا بالنسبة للخلائق، أما الله تعالى فلا يغرب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ سبأ 3.
والوحي إعلام في خفاء أو أمر سريع مستتر، فإذا أطلق ينصرف إلى الله تعالى، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ النحل 68، وقوله: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ﴾ المائدة 111، أما الوحي الاصطلاحي فهو ما كان من الله إلى أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام.
﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ والضمير في ﴿ لَدَيْهِمْ ﴾ يعود إلى أحبار اليهود وتخاصمهم في مريم واقتراعهم أيهم يكفلها، أي لم تكن حاضرا معهم في هذه الحادثة بالمشاهدة أو المشاركة أو المعاصرة ولم تعلم بها قراءة أو سماعا من قبل، ولا تمتلك وسيلة للعلم بها مما سوى الوحي.
لقد كان خطاب الملائكة لمريم وتذكيرها بفضل الله عليها وحثها على ملازمة القنوت والصلاة، واصطفاؤها من بين آل عمران أولا ومن بين نساء العالمين ثانيا، إعدادا نفسيا وتربويا وتأنيسا لها بما ستُخْبَرُ به، وما سوف تواجهه بهذا الاجتباء من محن شديدة واختبارات قاسية، حزنا وسوء قالة من اليهود، وعدوانية عليها مغالية في المكر والكره، لذلك خاطبتها الملائكة مرة ثالثة:
﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ وهو النداء الثالث لها من قبل الملائكة، وكان التعبير عنهم بصيغة الجمع تشريفا لمريم وإعلاما بعلو مكانتها واصطفائها، وإن كان الذي خاطبها من تلك الكوكبة الملائكية المبتعثة إليها واحدا منهم كما ورد في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ مريم 16/19 ,
هذا النداء الثالث هو مفتاح الدخول إلى صلب القضية، الغاية التي اصطفيت مريم لها واختيرت من أجلها، أن تكون أما لنبي من غير أب، آية للعالمين ودليلا على قدرة الله المطلقة، لذلك مهد الوحي تطمينا لقلبها وتهدئة لروعها بقول الملائكة لها:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ﴾ والتبشير في أصل اللغة لا يكون إلا بخبر عظيم مفرح، وكان هذا النداء بالبشارة إشارة إلى أنها محل عناية دائمة من ربها، لن يخزيها أو يخذلها، وأن باطن الخبر المنقول إليها ومآله خير ومسرة، على ما في ظاهره من حزن ومشقة.
﴿ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ والكلمة من الله هي أمره وقضاؤه يزاول سلطانه في ملكه بها وبدونها، وهي ﴿ كُنْ ﴾ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ﴾ يس 82، والكلمة في هذا السياق هي عيسى عليه السلام، لأنه خلق بأمر الله:" كُنْ "، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ الأحزاب 38، سمي" كلمة " هي أمر الله، وهي سبب خلقه، من باب تسمية المسبَّب باسم السبب، كما نقول لما يقدره الله تعالى: هذا قدر الله، وهذا أمر الله، أي حدث بقضاء الله وأمره ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ النساء 47.
أما تذكير لفظ "الكلمة " بقوله تعالى: ﴿ اسْمُهُ ﴾ فلأنه حمل الكلام على أصل المعنى الذي هو الأمر الإلهي أو عيسى، لا على لفظ " كلمة "، ولأنه لو قال" اسمها عيسى " لالتبس المعنى، بخلاف ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ النساء 171، إذ أنث الكلمة عندما أمن اللبس بذكر المسيح بنعته وصفته قبلها فقال: ﴿ أَلْقَاهَا ﴾ ولم يقل ألقاه.
وفي هذه الآية والتي قبلها تنويه بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يقرأ ولا يكتب إذ أوحي إليه بغيوب لم يطلع عليها إلا من حضرها أو قرأ عنها، قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ العنكبوت 48، وقال: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ هود 49.
كما أن فيهما من جهة أخرى تأكيدا لبشرية مريم وابنها عيسى إقامة للحجة على وفد نجران المسيحي المجادل فيهما، بعرض مسيرتهما البشرية ولادة وتربية وتنشئة واصطفاء وأمرا إلهيا ناجزا بخلق الإبن من غير أب وإرسال الملائكة تبشر أمه بصفاته وآياته وكراماته ومعجزاته فيزداد قلبها ثقة بأمر الله ورضا بقضائه، ونفسها طمأنينة ورحابة واستبشارا بما اختيرت له، وتخبرها باسمه كاملا مع نعته ونسبه، قال تعالى:
﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ بدأ بلقبه "المسيح"، أي: المبارك والممسوح من الذنوب، والذي يمسح بيده على المريض فيشفى بإذن الله، ثم باسمه الشخصي "عيسى"، ثم بنسبه "ابن مريم" للدلالة على أنه من غير أب، وأنه ينسب إليها تكريما لها من دون نساء العالمين، ولنفي ما يدعيه المسيحيون له من بنوته لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾ الوجيه في اللغة والعرف ذو الجاه والشرف والقدر لدى الناس، ووجاهة عيسى عليه السلام في الدنيا باصطفائه ونبوته وبراءته مما رماه به اليهود، وقبول الله دعوته بإحياء الموتى وإبراء المرضى وغير ذلك من المعجزات، وفي الآخرة بعلو المكانة والجاه وشرف المنـزلة، مثل كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وجهاء في الدنيا وفي الآخرة.
﴿ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ المقربين عند الله تعالى والشهداء لديه على الخلق، وكفى بقربه من ربه أن قرنه بالملائكة المقربين فقال عز وجل: ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُون ﴾ النساء 172.
﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ والمهد هو مضجع الرضيع، أما كلامه صبيا فكان آية من الله تعالى تدفع عن عرض والدته قالة السوء وتمحو من أذهان الناس عجبهم أن رأوها تلد من دون أن يمسها بشر، وتسفه ما يدعيه له أتباعه من بنوة لله تعالى، وتؤكد عبوديته لربه،قال تعالى: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ مريم29/33، ومن العجيب أن كلام عيسى في المهد لم يرد في أي إنجيل من أناجيل النصارى واتفقت كلمتهم على حذفه لأنه لا يسعفهم فيما يزعمون له، ولما يهدمه من أصل عقيدتهم في ألوهيته وبنوته.
وأما كلامه كهلا، والكهولة في المرء سن الأربعين وما بعدها، فدليل على بشريته التي ينتابه التغير بها من حال إلى حال، طفولة ثم احتلاما وشبابا فرجولة ثم اكتهالا، كما أنها قرينة على عودته لهداية الناس في كهولته، بعد اختفائه قبلها إذ حاول اليهود صلبه، مما يفهم من قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ النساء 159، ومن حديث البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ).
﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ صالحا في قصده ونيته وقوله وفعله، صالحا لحمل الرسالة وتبليغها والصبر على الأذى في سبيلها، من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون ولا يعصون. وهذه الرتبة من القرب جعلها الله تعالى لخاصة أوليائه وأصفيائه، لذلك سألها سليمان عليه السلام لنفسه فقال: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ النمل 19، وسألها إبراهيم لعقبه بعد أن أنجاه الله من النار فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ الصافات100/101،
لقد كانت البتول عليها السلام وهي صبية في كفالة زكرياء، تعرف بالتجربة قدرة الله المطلقة، منذ كان رزقها يأتيها بدون أسباب معتادة لدى البشر، لذلك أدركت بنسبة الولد إليها في قوله عز وجل: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ أنها على مشارف آية أخرى باكتساب ولد من غير أب وبدون أن يمسها بشر، فسارعت إلى استيضاح ذلك لا إلى استبعاده بقولها:
﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ وكان السؤال منها عن كيفية حصول ذلك ومصدره وزمانه ومكانه، على حالها وهي عفيفة و بدون زوج، بأداة الاستفهام " أنى " التي تفيد معنى كيف، ومعنى مِنْ أينَ، ومعنى مَتى، وتكون ظرفية للزمان والمكان. فتجلت بذلك ربانيتها وشفافية تلقيها عن الله وفهمها عنه إذ عرفت ما يراد لها من نسبة الولد إليها، وتجلى أدب مناجاتها وسؤالها ربها بأوضح تعبير وأوجزه وأشده خشوعا، في تلطف الله تعالى بها وسرعة إجابته لها:
﴿ قَالَ كَذَلِكِ ﴾ تأكيدا لما فهمته مريم من أن ابنها سيكون من غير أب.
{اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ قدرته تعالى مطلقة، يخلق من عدم، كما خلق الكون كله، ويخلق من تراب بغير أب وأم كما خلق آدم، ويخلق من النفس زوجها كما خلق حواء، ويخلق من الأم وحدها كما خلق عيسى، ويخلق من الأب والأم كما اعتاد البشر ﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ الشورى 49/50. خلقه تعالى بكلمة ﴿ كُنْ ﴾ أي بأمر واحد مفعول: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ القمر 50.
ويواصل الوحي الكريم تطييب نفس مريم وإتمام بشارتها بذكر فضل ابنها وكرامته ومعجزاته ورسالته بقوله تعالى:
﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ﴾ ولفظ " الكتاب " في هذا السياق كما ذهب إليه المفسرون يعني الكتابة، لأن عيسى بعث في أمة تقرأ وتكتب، كما يعني ما نزل قبله من زبور داوود وصحف إبراهيم.
﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ وهي الفهم ومعرفة مآلات الأقوال والأفعال وجميل التصرفات وسنن المعاملات.
﴿ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ علمه ربه عز وجل التوراة ليصلح ما حرفه اليهود منها ويكمل ما نقصوه فيها. وأنزل عليه الإنجيل إتماما لما سبق من كتب وتعديلا لبعض ما فيها من الأحكام الشرعية.
ثم بعد أن أوجز تعالى علم الرسالة المبتعث بها عيسى عليه السلام وهو الكتب التي سبقته والكتاب الذي أنزل عليه والحكمة، عقب ذلك ببيان القوم الذين أرسل إليهم فقال عز وجل:
﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ مرسلا إلى بني إسرائيل يصحح عقيدتهم ويحل لهم ما حرم عليهم بظلمهم، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويبشرهم برسول يأتي من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ الصف 6. ويبين لهم أنه جاءهم بخمس معجزات من ربهم هن علامة على صدقه﴿ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تحقق قوله وخبره وتؤكد نبوته ورسالته، ثم شرع في تفصيل هذه المعجزات فعبر عن الأولى بقوله:
﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾وأصل الخلق لغة من فعل: "خلق الشيء يخلقه" إذا أحدثه من عدم على تقدير وعلى غير مثال، وهو الإبداع ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ الأنعام 101، كما يستعمل لإيجاد الشيء من الشيء بدلالة قوله تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ } النحل 4، وقوله: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ المؤمنون 12. والخلق الحقيقي بهذا المعنى لا يكون إلا لله تعالى. أما الخلق المجازي وهو ما يصنعه البشر من موجود خلقه الله تعالى وبإذنه فهو ما أشارت إليه المعجزة الأولى لعيسى عليه السلام في هذه الآية الكريمة إذ يتناول قطعة من الطين - وهو التراب المخمر بالماء - فيشكلها على هيئة طائر ثم ينفخ في هذا الشكل، فيكون طائرا بإذن الله، تذكيرا للمخاطبين بخلق أبيهم آدم عليه السلام من طين، وتأكيدا لنبوة عيسى عليه السلام وصدق رسالته.
وقد بين عيسى عليه السلام في آيته هذه ثلاث مراحل لمعالجته الطين تناولا وتشكيلا ماديا ونفخا بأمر ربه لئلا يتوهم أنه خالق حقيقة، والرابعة نسبها إلى الله بقوله: ﴿ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ دفعا لكل شبهة شرك، ودليلا على أن عيسى ليس فيه أي معنى من معاني الألوهية كما يدعيه له أتباعه.
ولئن كانت هذه المعجزة المسخرة لعيسى بخلق الله الروح في الطين ابتداء فإن معكوسها الذي يبين مطلق القدرة الإلهية على الشيء وضده قد سبق على يد إبراهيم عليه السلام إذ ذبح أربعة من الطير وقطعها وفرق أجزاءها بين الجبال ثم دعاها فعادت إلى الحياة وأتت طائرة تسعى بإذن الله، قال تعالى: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ البقرة 260.
والمعجزات الأخرى لعيسى عليه السلام هي قوله:
﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ ﴾ والأكمه هو الأعمى ولادة، أو بالمرض بعد الولادة، يبرئهما عيسى بالدعاء
﴿ وَالْأَبْرَصَ ﴾ والبرص كذلك يبرئه بالدعاء، وهو داء جلدي أعراضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد، كان رسول الله صلى الله عيه وسلم يستعيذ بالله منه ويقول: ( اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام ).
﴿ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي بأمر الله، قيَّد الإحياءَ بإذن الله وأمره تسفيها ودفعا لمعتقدات النصارى في ألوهيته، وتأكيدا على أن الخلق لا يكون إلا بإرادة الله وإبداعه.
هذه المعجزات كلها تتضمن جانبا ماديا هو عمل عيسى وجانبا غيبيا هو خلق الله تعالى، إلا أن طبيعة بني إسرائيل المادية اللجوجة المعاندة العمية عن الغيب ومقتضياته تتطلب آية أكثرَ ماديةً، يلمسونها بأيديهم وتراها أعينهم لذلك جاءهم عيسى بها من عقر بيوتهم فقال:
﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ فكان عليه السلام يخبرهم بخواص كل واحد منهم في بيته، وبما يأكله وما يدخره من طعام وأموال وقنية.
إن معجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام تأتي في أغلب حالاتها تحديا لأقوامهم فيما يتقنونه من علوم ومهارات، كما هو حال سحرة فرعون وقد تحداهم موسى عليه السلام بعصاه التي أبطل بها سحرهم، وحال العرب المتفاخرين بفنون القول شعرا ونثرا وأمثالا وحكما، فتحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن المعجز صياغة ومعاني وأحكاما وأخبارا ومواعظ وأسرارا للكون يكتشف العلم بعضها جيلا بعد جيل. كذلك كان قوم عيسى من بني إسرائيل قد برعوا في الطب مبلغهم في السحر، فتحداهم في المجالين بإبراء المرضى وإحياء الموتى وعلم ما في بيوتهم من مدخرات ومطعومات، ولئن كان طِبُّ قومه على قصوره ومحدوديته، وسحر كهنتهم ومنجميهم على تخييلاته وافتراءاته، بأساليب ومعالجات واستخراجات وطلاسم، فإن معجزات عيسى عليه السلام كانت ابتداء بإعلام الله تعالى من غير طلب أو احتيال أو معالجة، وهذا هو الفرق بين خوارق العادات والسنن لدى الأنبياء، وبين ما يدعيه السحرة والمنجمون وما يعمله الأطباء والمعالجون.
وبعد أن أقام عيسى الحجة بهذه الآيات، بين الغاية منها وما ينبغي أن يصير إليه من رآها من العقلاء الأسوياء، وأنها مجرد وسيلة يتألف بها قلوبهم وعقولهم للحق الذي جاء به فقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ أي إن فيما رأيتم من آيات لدليلا على صدق نبوتي وما أرسلت به إليكم إن كنتم تعتبرون بهذه الحجج والمعجزات، وتقرون بتوحيد الله، وتؤمنون بموسى والتوراة التي جاءكم بها.
ثم عاد لبيان طبيعة رسالته إلى بني إسرائيل فأجملها في شيئين أولهما عبر عنه بقوله:
﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ أشهد على صدقية توراة موسى التي تقدمتني، وأصحح ما حرفتم منها وأذكركم بما نسيتم فيها.
وعبر عن الثاني بقوله ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ أخفف عنكم بعض الآصار والأغلال التشريعية التي وضعت عليكم عقوبة من الله بما ظلمتم، قال تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ النساء 160/161. وهي نفس الآصار والأغلال التي تمسك بها اليهود على رغم تعاليم عيسى، والتي جاء الإسلام لرفعها عنهم أيضا كما ورد في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾
ثم تبرأ عيسى من حوله وقوته في كل ما أتى به فقال لهم:
﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ وما جئتكم به من آيات لم يكن مني ولا بقدرتي ولكن من ربكم وبقدرته وأمره، لأنني لا قدرة لي على ذلك ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا.
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ إذا عرفتهم هذا وآمنتم فقد لزمكم أن تتقوا الله وتمتثلوا أمره، وأن تطيعوني فيما آمركم به من أحكام الدين، خطاب هو نفس ما خوطبت به أقوام الأنبياء جميعا، قال صالح لقوم ثمود: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ الشعراء 143/144، وقال خاتم الأنبياء للناس: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ آل عمران 32.
﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾ إنني وإياكم سواسية في العبودية لله تعالى، عبادته واجبة علي وأنا أعبده وواجبة عليكم فاعبدوه. ولنكن جميعا أمة مسلمة له مؤمنة به ملتزمة بتوحيده وشريعته. هذا هو السبيل الوحيد المنجي بين يديه الموصل إلى رضاه وجنته:
﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ طريق غير ملتو ولا ذي عوج، يوحد ولا يفرق ويجمع ولا يشتت، كلنا نتجه إلى غاية واحدة هي مركز عبادتنا، وما تشتت الصفوف في هذا السبيل واختلاف الشيع وتضارب الاتجاهات إلا بانحراف مقصود عن مركز التوجه، أو خلل خرب بوصلة رصد الهدف.
هذا منطق عيسى في المهد إذا قال: ﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ مريم 30/31، ومنطقه وهو مبتعث إلى قومه إذ قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ ومنطقه في الملأ الأعلى إذ يسأل عن حقيقة القيم الإيمانية التي ابتعث بها: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ المائدة 116/117.
لقد كان مسار آيات هذه الحلقة من التفسير ردا على دعاوى المسيحيين في بنوة المسيح عليه السلام وإبطالا لها من جهة، وتبيانا لجوهر العقيدة الإسلامية وطبيعة المرسلين بها من جهة أخرى، وسَلَكَ إلى هذه الغاية سبيلين:
أولهما بيان عبودية المسيح لله تعالى مثل سائر البشر، في إطار التوحيد الخالص والعبادة الصحيحة والصراط المستقيم بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾.
والثاني بيان أصوله البشرية كجميع الأنبياء والرسل، من جده عمران وأمه مريم في نشأتها وتربيتها وعبادتها، إلى مسيرة حياته بصفاته البشرية وتطوره جنينا وصبيا ورجلا وكهلا، وافتقاره إلى أم ترضعه وتغذيه وتربيه، وصفاته الرسالية التي أضفت عليه من التكريم وعلو المقام ما جعله من أولي العزم من الرسل فسماه ربه تعالى:
المسيح أي المبارك، وابن مريم تكريما له ولأمه إذ خلق من غير أب بنفخة من الروح فيها، ورسول الله تكريما له بالرسالة وإبطالا لما يدعيه النصارى له من ألوهية وبنوة، وكلمة الله أي أمره وخلقه تأكيدا لمخلوقيته وبشريته ، وعبده بيانا لصفة العبودية والعبادة التي تجمعه مع جميع المخلوقات.
والأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا مثله، بشر مخلوقون، عباد أكرمهم الله بالنبوة ورسالة التوحيد، ليس لهم من خصائص الربوبية شيء، قال تعالى:﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ إبراهيم 11، وقال عز وجل آمرًا رسوله نوحا عليه السلام أن يقول لقومه: ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ الأنعام 50، وآمرًا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ الكهف 110. وأن يقول: ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ الإسراء 93.
لقد وصف رب العزة تعالى عبده عيسى عليه السلام بأفضل ما وُصِف به نبي كريم رفيع القدر مما جعل نجاشي الحبشة يعلن إسلامه بين يدي مهاجرة المسلمين إليه، إذ سألهم عن قولهم فيه فقال له جعفر بن أبي طالب:" نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول" فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: "والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود" ثم كتب إلى رسول الله جواب رسالته إليه، ومنها: " والله الذى لا إله إلا هو أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى بن مريم لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا[1]، إنه كما ذكرت. وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين ".
[1] - ثُفروق التمرة علاق ما بين قِمَعها ونواتها