يقول الله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الأعراف 180
ويقول : ( قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) الإسراء 110
ويقول الرسول ـ صلى الله علية وسلم ـ : "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة " متفق عليه.
والخلاف بين المفسرين حول معنى الإحصاء، هل هو الاعتقاد القلبي بها والإيمان، أم عدها وقراءتها كلمة كلمة على طريق الترتيل تبركا وإخلاصا، أم حفظ مبانيها وعلم معانيها والتخلق بما فيها ؟ .
فهل من سبيل إلى قول في الموضوع قد يكون فصلا، وتحليل للقضية قد يكون عدلا؟ لاسيما والدعاة الصادقون أكثر حاجة إلى وضوح الرؤية وثبات القلب وصفاء الوجدان وقوة الجنان. وأسماء الله الحسنى لها التأثير الأكبر في حياتنا المادية والمعنوية والفكرية والعقدية، لأنها مدخل الإيمان وركيزة التوحيد، وينبغي أن تكون منهجا للحياة وقواما للسلوك ومحورا للأخلاق.
ولئن كانت رحمة الله وحكمته قد فتحتا لنا باب الجنة بإحصاء تسعة وتسعين اسما من أسمائه تعالى فقط؛ فذلك لأن التأثر بها والتأسي بموحياتها كافيان لتعديل سلوك المرء وتقويمه وأطره على ما يرضي الله ويقرب إليه، وإلا فالأسماء الحسنى المقدسة لا يحصرها إدراك ولا يحدها عد.
إن معرفة أسماء الله وصفاته المحصورة في هذا العدد ميسرة لمن أراد وإلا لما تعبدنا بإحصائها؛ لذلك فالكل يدخل الجنة إلا من أبى ورفض، لكن هذه المعرفة تتفاوت مقاديرها من شخص إلى شخص، فالذي يقر بلسانه أن الله قادر وعالم ليس كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض وخلق الأرواح والأجساد، ورأى آيات الله في نفسه وفي الآفاق ممعنا في التفصيل، مستقصيا دقائق الحكمة ومستوفيا لطائف التدبير، وليس من فعل هذا فقط كمن أضاف إليه تعديلا لسلوكه ومنهج حياته بما يناسب هذه المعرفة، فطابت نفسه وعلت همته وتسامت أخلاقه يوما بعد يوم.
إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل وإن العبادة التي خلقنا من أجلها يشترك فيها القلب بالاعتقاد واللسان بالإقرار والجوارح بالعمل، ألم تر إلى الذي كان يصلي ويعبث بلحيته فقال عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ".
كذلك الأسماء الحسنى التي تعبدنا الله بإحصائها لابد فيها من اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح.
إن كل اعتقاد سليم يجب أن يظهره الإقرار الصريح، وكل اعتقاد وإقرار لابد أن يصدقهما العمل الصالح والسلوك السليم، وإلا فالأمر زيف وانحراف وادعاء وإسراف.
ذلك أن الذي يكتفي بفهم معاني أسماء الله تعالى ليس إلا كأي عالم لغوي من أي دين، أو بدون دين.
والذي يعتقد بقلبه دون إقرار وعمل، لا يخرج كثيرا عن دائرة المغضوب عليهم من الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به.
والذي يقر بلسانه ـ دون أن يفهم عقله ويطمئن قلبه ـ لا يبتعد كثيرا عن دائرة الكافر الذي يردد معتقدات أجنبية عنه، أو الأحمق والببغاء اللذين يلقنان قول ما لا يفهمان، وكل ما يفعلانه أنهما يبرهنان على سلامة حاسة السمع التي استمعا بها إلى الكلام، وسلامة اللسان الذي ردداه به، وهذه صفات لا ترفع صاحبها كثيرا عن درجة الحيوان سليم السمع واللسان.
أما الذي يفهم معانيها ويعتقد ثبوتها ويقرها بلسانه دون أن تؤثر في سلوكه فهو لا يكاد يخرج عن دائرة المقت التي توعد الله بها أمثاله حيث قال : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) الصف 2-3
ذلك أن الله شهد لهؤلاء في هذه الآية الكريمة بالإيمان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ) ، ولكنه وعدهم بالمقت الكبير ؛ لأن إيمانهم وإقرارهم لم يؤديا إلى تغيير في سلوكهم أو رفع لمستوى أخلاقهم.
إن التوحيد الحق شقان لا غنى لأحدهما عن الآخر :
شق اعتقادي يمنح الرؤية الواضحة للكمال الإلهي المطلق المتجلي من صفات الله تعالى وأسمائه، إذ لا توجد صفة كمال إلا وهي له سبحانه وتعالى كما قال [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ـ الروم 27 ـ وشق عملي يوجه الحركة البشرية نحو الطريق الموصلة إلى التأثر والتأسي بذلك الكمال المطلق.
إن التوحيد الاعتقادي إدراك لوحدانية الله تعالى وهو لذلك رؤية وتصور
أما التوحيد العملي فهو أن تتأثر أخلاقك بها وهو لذلك سلوك وتأثر.
إن معاني أسماء الله الحسنى هي صفاته تعالى، وصفاته لا تصير صفة لغيره أبدا، ولكن ينبغي أن يحصل للإنسان ما يناسب المؤمن من تلك الأوصاف؛ وبذلك يصير العبد ربانيا. أي قريبا من الرب سبحانه وتعالى، من غير أن يسقط في حبائل الشيطان ومكائده مثلما سقط بعض ضلال الصوفية في الحلول أو الانتقال أو الاتحاد وذلك هو الإلحاد بعينه.
إن أسماء الله تعالى وصفاته كلها إما ثناء على الله بما هو أهله أو تنزيه له عما لا يليق بذاته. ونحن عندما نؤمن بها ونذكره بها ونتأثر سلوكيا بنورها إنما نثني عليه ونسبحه وننزهه عن كل صفة لا تليق به تعالى. وفي كلتا الحالتين نحن نرسخ معرفته في أنفسنا ونرفع بهذه المعرفة ذواتنا نحو الأعلى بتقويم سلوكنا وتطهير أعمالنا، وتزكية أخلاقنا ، وتقوية نفوسنا وتثبيت قلوبنا ومواقفنا على الحق في مواجهة الفتن التي لا بد أن تواجه من يقول :"آمنت"، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) ـ العنكبوت ـ 2 .
وفي كلتا الحالتين تقوم أعضاؤنا بما تفرضه هذه الأسماء المقدسة علينا من وظائف الأحكام، وذلك معنى الإسلام.
وتقوم قلوبنا بما تلهمه من وظائف الاستسلام، وذلك معنى الإيمان.
وتقوم أرواحنا بما تستدعيه من مراقبة الله سبحانه، وذلك معنى الإحسان:
وهذا واضح من تعريف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للإسلام والإيمان والإحسان:
ـ الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
ـ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
ـ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
بذلك يتضح أن إحصاء أسماء الله الحسنى يشمل تمام الإسلام والإيمان والإحسان... فكيف لا يكون مفتاحا للجنة... وسبيلا إلى الغفران والرضوان ؟ !
إن على الدعاة الصادقين أن يوقنوا بأن أسماء الله الحسنى اعتقادا وإقرارا وعملا ـ إضافة إلى كونها بابا للجنة ـ هي أمضى سلاح يواجهون به أعداءهم ويتغلبون به على مختلف الصعاب والمشاق التي تواجههم.
إن الداعية الذي يبني سلوكه على قاعدة أن الله هو الملك لا ترتجف فرائصه أو ترتعد أمام ملوك الأرض.
والذي يبنيه على قاعدة أن الله هو المحيي والمميت لا يخاف أن يقتله طاغية قبل أجله كما لا يطمع أن يعفيه طاغية من الموت بقدرته.
والذي يبني تصرفه على قاعدة أن الله هو الرزاق والغني المغني والوهاب والكريم لا ينتظر أن يرزقه بشر، كما لا يخاف أن يمنعه بشر رزقه.
والذي يبنيه على قاعدة أن الله هو النافع الضار لا يخشى أن يضره مخلوق بغير ما كتب عليه، كما لا يطمع أن ينفعه مخلوق بغير ما كتب له.
والذي يبنيه على قاعدة أن الله هو السلام المؤمن لا يبتغي الأمن إلا من الله ولا يشعر بالخوف والرهبة إلا من الله.
والذي يبنيه على قاعدة أن الله هو الواحد الأحد القوي الجبار المعز المذل مالك الملك يجب أن يمنحه هذا الإيمان القوة والعزة والثقة بنصر الله فتضعف أمامه قوة الظالمين وتصغر في عينه دول الجبابرة كما قال عز الدين بن عبد السلام المقدسي: (لما استحضرت عظمة الله تعالى ظهر لي الأمير كالقط).
وبهذا يتضح أن من لم يسر في سلوكه اليومي على هذه القاعدة يكون قد نسب عمليا صفات الله تعالى إلى غيره ولو كان قلبه ولسانه يلهجان بنسبتها إليه سبحانه.
إن أهم ما ابتليت به الدعوة الإسلامية المعاصرة وجود أعضاء لها يشركون مع الله غيره إشراكا عمليا برغم أن التوحيد الإعتقادي والقولي قد يكون حاصلا، ولذلك تراهم ـ باسم التكتيك والدهاء السياسي ـ يقومون بأعمال مخالفة لجوهر الدين ويوجهون توجيهات مخلة بالعقيدة مجاراة للسفهاء، ومداراة للأعداء، واستجلابا لنفعهم الموهوم، ودرءا لضررهم المزعوم.
هؤلاء الموحدون اعتقادا وقولا، المشركون عملا وسلوكا، فتنوا الدعوة وأذلوا الأمة، وضيعوا الأمانة، وشتتوا الصف وأوهنوا العزائم، وتكالبوا على الأبواب تزلفا وتجسسا ومكرا ومتاجرة لا لشيء إلا لأنهم خافوا الظالمين على رزق ليس بأيديهم، أو حياة لا يملكونها لأنفسهم، أو أمن هم في أشد الحاجة إليه، أو عافية لا يملكون أسبابها.
هؤلاء الدعاة المنهارون أساؤوا إلى أنفسهم وإلى دعوتهم وأمتهم،؛ لأنهم اعترفوا بالقدرة لله، ولكنهم نسبوا أخص خصائص القدرة لغير الله.