رسالة مكلومة من أمكِ المسكينة
وكأني بها تقول لكِ من ذلك القلب الكبير المليء بالحب والحنان ، والوفاء والتضحية ، كتبتها على استحياء بعد تردد وطول انتظار .أمسكت بالقلم مرات فحجزته الدمعة ! وأوقفته الدمعة مرات ، فجرى أنين القلب .
يابنيّه .. بعد هذا العمر الطويل أراكِ فتاةً سوية مكتملة العقل ، متزنة العاطفة .. ومن حقي عليكِ أن تقرئي هذه الورقة ، وإن شئتِ بعد فمزقيها كما مزقتِ أطراف قلبي من قبل !
يابنتي : منذ عشرين عاماً كان يوماً مشرقاً في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل ! وتعرفين معنى هذه الكلمة جيداً ! فهي مزيج من الفرح والسرور ، وبعد هذه البشرى حملتكِ تسعة أشهر في بطني ،أقوم بصعوبة ، وأنام بصعوبة ، وآكل بصعوبة ، وأتنفس بصعوبة . لكن ذلك كله لم ينتقص من محبتي لكِ وفرحي بك ! بل نَمت محبتكِ مع الأيام ، وترعرع الشوق إليك ! حملتكِ وهناً على وهن ، وألماً على ألم .. أفرح بحركتِكِ ،وأسر بزيادة وزنِكِ ،وهو حملٌ علي ثقيل !
( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُّهُ وهناً على وهنٍ وفصالُهُ في عامين أنِ أشكر لي ولوالديكَ إلَيَّ المصير ) إنها معاناة طويلة ، أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه قلم ، ولا يتحدث عنه لسان .. اشتد بي الألم حتى عجزت عن البكاء ، ورأيت بأم عيني الموت مرات عديدة !
حتى خرجت إلى الدنيا فامتزجت دموع صراخِكِ بدموع فرحي ، وأزلت كل آلامي وجراحي ، بل حنوت عليك مع شدة ألمي وقبلتُكِ قبل أن تنال منك قطرة ماء !
يا بنتي الغالية : مرت سنوات من عمركِ وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي ، فكان بطني لك وعاء ، ثم أصبح حجري لك فراشاً ، وثديي لك سقاء …
كثيرُكَ يا هذا لـديّهِ يسـيرُ
لأمك عليكَ حقٌ لو علمتَ كـثيرُ
لها من جـواها أنـةٌ وزفيرُ
فكم ليلةً باتت بثقـلِكَ تشتـكي
فمن غُصصٍ منها الفؤاد يطيرُ
وفي الوضع لو تدري عليها مشقةٌ
وما حـجرها إلا لديكَ سريرُ
وكم غسلت عنـكَ الأذى بيمينها
ومن ثـديّها شُربٌ لديكَ تميرُ
وتفديكَ ممـا تشتـكيه بنفسـها
حناناً وإشـفاقاً وأنـتَ صغيرُ
وكـم مرةً جاعت وأعطتكَ قوتها
فطال عليك الأمر وهو قصيرُ
فضيّعتها لــمّا سمنت جـهالـةً
وآهٍ لأعمى القلب وهو بصيرُ
فآهٍ لـذي عقـلٍ ويتبع الـهوى
مرت الليالي والأيام وأنا خادمة لم تقصر ، ومرضعة لم تتوقف وعاملة لم تسكن ، وداعية لكِ بالخير والتوفيق والعفة والعفاف ، أراقبكِ يوماً بعد يوم حتى اشتد عودك ، واستقام شبابكِ ، وبدت عليك معالم البلوغ والرشد ، فإذا بي أنتظر بفارغ الصبر نتائج ( الثانوية العامة ) لتكمل فرحتي بكِ بدخولكِ الجامعة !! وأتى موعد الجامعة ، واقترب زمنها ، فتقطع قلبي ، وجُرِحَت مدامعي ، فرحة بحياتك الجديدة ، وحزناً على فراقك !
ومرت الساعات ثقيلة ، واللحظات بطيئة ، فإذا بك لستِ ابنتي التي عرفت . اختفت ابتسامتك ، وغاب صوتك ، وعبس محياك ،، لقد أنكرتني وتناسيت حقي ! تمر الأيام أراقب طلعتك ، وأنتظر بلهف سماع صوتك . لكن الهجر طال والأيام تباعدت ! ( أما ابن سرين يا بنتي ، كان إذا جلس بالقرب من أمه ظن القوم أنه مات ، لكثرة سكونه وهدوئه خوفاً من أن يزعجها )
يابنتي : لا أطلب إلا أقل القليل .. اجعليني في منزلة أطرف صديقاتِكِ ، وأبعدهم حظوة لديك ! اجعليني إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق ..
تُعَلُّ بمـا أجني عـليّك وتنهلُ
غـذوتك مـولوداً وعُلتُكَ يافِعاً
لشـكواكَ إلاّ ساهـراً أتملمَلُ
إذا ليلةٌ نـالتك بالشجو لـم أبِت
طُرِقت به دوني فعينيَ تـهمُلُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي
لأعلم أن الموتَ حتم مـؤجل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني
إليها جـَرَى مـا أبتغيه وآمُلُ
فلما بلغت الوقت في العدّة التي
كـأنك أنـت المنعمُ المتفضِّلُ
جَعَلتَ جَزائي منك جبهاً وغلظَةً
كما يفعل الجارُ المجاوِرُ يفعلُ
فليتَكَ إذ لـم ترع حـقَّ أُبوَتِي
احدودب ظهري ، وارتعشت أطرافي ، وأنهكتني الأمراض ، وزارتني الأسقام .. لا أقوم إلا بصعوبة ، ولا أجلس إلا بمشقة ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك !
ورسالهتا لم تنتهي إلا أنني أكتفِ بهذا القدر وتلك الكلمات التي كتبتها لكِ – يا أخيه – والدموع تسح على الخدود ،والأنين أغلقت الأبواب دونه فبقي ساكناً في القلب الحزين لما رأى من عقوق الوالدين – عجباً لمن عق والديّه – ألم يدرك حتى الآن أَنْ كان بإمكانهم تركه صغيراً دون رعاية وحنان وشفقة كما يعاملهم هو الآن !!! تلكَ إذاً قسمةً ضيزى ...
أختاه .. إنها أمكِ التي أحسنت إليك إحساناً لن تقابليه ومعروفاًً لن تجازيه ... لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات ! فأين الجزاء والوفاء ؟ ! وأحسني فإن الله يحب المحسنين !
أختاه ... لا تريد منكِ سوى أن تحافظي على عفتك وطهارتكِ وشرفك ،وتبتعدي عن رفقاء السوء ، وما هو حرام ومنبوذ مما تسمونه اليوم بالزمالة والصداقة مع الأجانب من الرجال و...
أما آن لقلبكِ أن يرق لامرأة ضعيفة أضناها الشوق ، وألجمها الحزن ! جعلتِ الكمد شعارها ، والغم دثارها ! وأجريتِ لها دمعاً ، وأحزنت لها قلباً ، وقطعت بها رحماً .. نتيجة ذلك الفعل الذي ارتكبتيه ، وذلك الذنب الذي اقترفتيه .. من تسكع هنا وهناك ، وتمايل وتغنجات .. (( صنفان من أهل النار لم أرَهما .... كاسيات عاريات مائلات مميلات ، لا يجدن ريح الجنة ، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا ))
أختاه - هاهو طريق الجنة دونكِ فاسلكيه ، وأطرقي بابه بابتسامة عذبة ، وصفحٍ جميل ، ولقاءٍ حسن ، وأعود الى رزانتك وعقلكِ ، وقَبّلي تلك اليد التي ما بخلت عليكِ يوما ، وذلك القلب الذي لم يحمل عليكِ حقدا ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا يدخل الجنة قاطع رحم )) فلعمرُكِ ! كيف بأمك !!! ودعوة الوالدين لا ترد ، كما جاء في الحديث الصحيح ( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنّ ، دعوة المظلوم ، ودعوة الصائم حين يفطر ، ودعوة الوالد على ولده )
إنني أعيذكِ أن تكوني ممن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (( رَغُم أنفه ، ثم رغم أنفه ، ثم رغم أنفه ! قيل : من يا رسول الله ؟ قال (( من أدرك والديه عند الكبر ، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة )) رواه مسلم .
وكما تدين تدان ... وستكتبين رسائل لإبنك وابنتُكِ بالدموع مثلما كتبتها إليك .. وعند الله تجتمع الخصوم !
سوق الكساد ينادي من يواسيني
أماه عذراً إذا ما الشعر قام على
ناح القصيد ونَوْحُ الشعر يشجيني
مالي أراه إذا مـا جئت أكتبـه
يـا قمة الطهر يا من حبكم ديني
حاولت أكتب بيتاً فـي محبتكم
وأسبل الدمع مـن عينيه في حين
فأطرق الشعر نحوي رأسَهُ خجلاً
شح القصيد وقـامَ البيت يرثيني
وقال عـذراً فإني مسني خورٌ