وثائق ويكيليكس .. صيد ثمين أم طعم مثير؟!
مصطفى عبدالجواد
1 محرم 1432هـ
لاشك أن عملية تسريب مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية عبر موقع "ويكيليكس"
تُعد الأضخم على مر التاريخ، فلم يحدث أن تعرضت دولة من قبل لتسريب هذا
الكم من وثائقها السرية إلى وسائل الإعلام، لتصبح مداولات دبلوماسييها
وتقديراتهم وآرائها الخاصة متاحة لعشرات الملايين عبر الانترنت، لكن تقدير
الخطورة والأهمية التي تحملها هذه الوثائق يبقى أمراً غير محسوماً حتى
الآن، فالبعض يراها مجرد "ثرثرة" لا تحمل جديداً، بينما يرى آخرون أن
مصداقية أمريكا تعرضت لضربة عنيفة، وأن الكثيرين من ساسة العالم سوف
يترددون كثيراً قبل الإفصاح عن مواقفهم الخاصة في حضرة المسئولين
الأمريكيين، خشية أن يفاجئوا بها في اليوم التالي منشورة عبر العالم.
ورغم أن الطريقة التي وصلت بها هذه الوثائق إلى القائمين على موقع "ويكيليكس"
مازالت مجهولة حتى الآن، إلا أن تقارير صحفية أشارت لتورط مجند بالجيش
الأمريكي يدعي برادلي ماننج في الأمر، مستغلاً عمله في قسم تحليل المعلومات
بالمخابرات العسكرية الأمريكية، ما منحه صلاحية الدخول لقواعد المعلومات
الموصوفة بالسرية، والتي تتضمن ملايين الوثائق الخاصة بمختلف الوزارات
والوكالات الفيدرالية، لكن صلاحيات ماننج، بحكم كونه مجنداً صغيراً، اقتصرت
على قواعد المعلومات الأقل سرية وخطورة والمصنفة تحت بند "سري"، بينما لم
تطل يده الوثائق الأكثر خطورة المنصفة تحت فئة "سري للغاية".
تحت الحزاموبالفعل فإن ما جرى نشره حتى الآن من تلك الوثائق يخلو من أي معلومات أو وثائق
خطيرة، فمعظم الوثائق الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية عبارة عن مراسلات
روتينية بين مقر الوزارة بواشنطن والدبلوماسيين الأمريكيين عبر العالم،
لكنها لا تخلو مع ذلك من تقديرات وتقييمات و"همز ولمز" قد يغضب مسئولي
الدول التي يعمل فيها هؤلاء الدبلوماسيون، كما أنها - وهذا هو الأشد خطراً
وإحراجاً لواشنطن - تتضمن مواقف غير معلنة أفضى بها ساسة هذه الدول إلى
مسئولين ودبلوماسيين أمريكيين في جلسات خاصة، ومن ثم فإن الإفصاح عنها يضع
قائليها وناقليها في حرج بالغ.
وقد حاولت الولايات المتحدة استباق هذا الحرج والتقليل من وطأته بإجراء سلسلة
اتصالات مع مسئولي الدول الواردة في تلك الوثائق، لإطلاعهم مسبقاً على
فحواها قبل أن يتم نشرها على "ويكيليكس"، إلا أن ذلك لم يقلل من حجم الغضب
في دولة مثل روسيا، التي تضمنت الوثائق انتقادات واتهامات عنيفة بحق رئيسها
دميتري ميدفيديف ورئيس وزرائها فلاديمير بوتين، خاصة الأخير الذي اتهمته
إحدى الوثائق بإقامة علاقة وثيقة مع المافيا وتربحه والدائرة المقربة منه
مليارات الدولارات جراء ذلك.أما تركيا فقد تضمنت إحدى الوثائق مزاعم بحصول رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان
على أموال بطريقة غير مشروعة وامتلاكه حسابات سرية في بنوك سويسرا، إضافة
لمزاعم أخرى حول مساعدة مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق، وتزويد إيران
بمعدات لبرنامجها النووي. ولم تقتصر القائمة على روسيا وتركيا، وإنما امتدت
لتشمل دول عدة، مثل فرنسا وإيطاليا وباكستان وأفغانستان، إضافة إلى معظم
الدول العربية.
من المستفيد؟
وكان لافتاً فيما سرب من وثائق حتى الآن خلوها من أي مواقف أو معلومات تضر
بإسرائيل، بل إن ما تضمنته الوثائق يصب بشكل مباشر في مصلحة إسرائيل، سواء
من جهة تشويه صورة تركيا ورئيس وزرائها أردوغان، عدو إسرائيل الجديد، عبر
وصمه بالفساد وإظهاره بمظهر المتواطئ مع إيران، كما أن الوثائق تحاول
الإيحاء بوجود إجماع غير معلن من جانب دول الجوار العربي على ضرورة قيام
الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، وذلك على عكس ما يصرح به
قادة هذه الدول في العلن، ولا شك أن ضرب إيران يشكل مطلباً إسرائيلياً
ملحاً، كي تبقى تل أبيب متفردة بامتلاك السلاح النووي في المنطقة.
هذه الملاحظة دفعت الرئيس التركي عبد الله جول، ومعه الرئيس الإيراني محمود
أحمدي نجاد، الذي تعد بلاده أحد أشد المتضررين من نشر الوثائق، للاستنتاج
بأن ما يحدث ليس تسريباً وإنما عملية منظمة ومنسقة تمر عبر "مصفاة" لتحقيق
أهداف محددة سلفاً، أما وزير الداخلية التركي فقد كان أكثر تحديداً واتهم
إسرائيل صراحة بالوقوف وراء تسريبات ويكيليكس، منطلقاً من نظرية بوليسية
تدعو للبحث عن "من المستفيد؟ ومن الخاسر؟" لفك لغز أي قضية، وبهذا المنطق
خلص الوزير التركي إلى كون إسرائيل هي المستفيد لخلو الوثائق من أي إدانة
تمسها، في حين أن أكبر الخاسرين هم خصوم إسرائيل، سواء تركيا أو إيران،
وبالتالي فإن الفائدة الإسرائيلية مزدوجة.
تسريب منظم
وإذا ما اعتمدنا نظرية التسريب المتعمد للوثائق، فإن هناك عدة سيناريوهات لذلك:
الأول:
يتهم جهات في الاستخبارات الأمريكية بالوقوف وراء ذلك بهدف تضييق الخناق
على إيران، وإيصال رسالة للعالم بأن إجهاض برنامج طهران النووي، ولو عبر
القوة العسكرية، يعد هدفاً مشتركاً ليس فقط بين إسرائيل والولايات المتحدة،
وإنما تتفق عليه دول الجوار العربي، وإن كانت تقول في العلن عكس ذلك، كذلك
فإن التسريبات تبالغ كثيراً في إظهار طبيعة العلاقة بين إيران وتركيا، ما
قد يجعل أنقرة أكثر حذراً في المستقبل تجاه أي تعاون مع طهران. ويرى أنصار هذا السيناريو أن دفع هذه الوثائق، التي أشبه ما تكون بمداولات
داخلية، إلى العلن ربما يساعد في دفع الرأي العام الأمريكي لمساندة مواقف
بعينها، حسبما يخطط مسربو الوثائق، أي أنهم يريدون مساندة الرأي العام
لتمرير وجهة نظرهم على حساب تيارات أخرى داخل الإدارة الأمريكية، كذلك فإن
إطلاع الأمريكيين على المخاوف والتحذيرات الواردة في الوثائق سوف يبرر
للإدارة الأمريكية اتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه بعض حلفائها، متذرعة في ذلك
بإرضاء الرأي العام، وهو ما ينطبق بشكل خاص على الأوضاع في باكستان وأفغانستان.
أما ثاني السيناريوهات فيتهم التيارات اليمينية ومناصري إسرائيل بالوقوف وراء التسريبات، أولا:
لإحراج الرئيس أوباما وتصويره بمظهر العاجز حتى عن حماية وثائق إدارته، فما بالك بأمن
الولايات المتحدة ومواطنيها؟،
وثانيا:
لدفع أوباما لتبني سياسات أكثر شدة تجاه إيران وصولاً إلى وضع الخيار
العسكري على الطاولة، كذلك فإن الوثائق تستهدف كشف حجم المشكلات والإخفاقات
التي تعاني منها إدارة أوباما في مجال إدارة السياسة الخارجية، وعجزها عن
اتخاذ مواقف رادعة تحفظ مصالح أمريكا، مع الخصوم والحلفاء على حد سواء.
تحالف ثلاثي
ويذهب السيناريو الثالث إلى وقوف تحالف من المخابرات الأمريكية والهندية
والإسرائيلية وراء الوثائق المسرَّبة، فالأمريكية والإسرائيلية تريدان
تكثيف الضغوط على إيران، وعزلها عن جيرانها العرب عبر زرع الشكوك بينهما،
إضافة لردع تركيا عن تعزيز علاقتها مع طهران، أما المخابرات الهندية فإن ما
تضمنته الوثائق عن برنامج باكستان النووي يعد صيداً ثميناً، إذ أنها تحذر
من إمكانية سيطرة المتشددين الإسلاميين على منشآت إسلام آباد النووية، أو
نجاح تنظيم القاعدة في اختراق العاملين في تلك المنشآت بما يمكنه من امتلاك
سلاح نووي، وهو ما يعزز وجهة نظر نيودلهي القائلة بأن باكستان غير جديرة
بامتلاك سلاح نووي، وأنه يجب تجريدها من ذلك أو على الأقل وضع منشآتها
النووية تحت إدارة دولية.ورغم أنه لا يمكن القطع بمدى صحة أي من تلك السيناريوهات، إلا أن ما يتم تسريبه
من وثائق يؤكد يوماً بعد آخر أن ما يحدث ليس عملاً عبثياً أو مجرد فشل
أمني أدى لتسريب الوثائق، وإنما هي عملية منظمة يقف وراءها أشخاص أو جهات
تدرك قيمة ما تتضمنه الوثائق من وقائع ومعلومات وتقوم بنشره بشكل منهجي
ومبرمج، أي أن ما تصوره البعض "صيد ثمين" عبر الإطلاع على وثائق الخارجية
الأمريكية والبنتاجون ومعرفة خفايا ما يدور في الدهاليز، ربما يكون "طعم
مثير" لاصطياد فريسة أهم وأخطر مما تضمنته الوثائق من مواقف قد تضر
بدبلوماسية واشنطن ومصداقيتها على المدى القريب