الانفتاح على الذات
تدل الخبرة البشرية على أن هناك إمكانية مستمرة لأن ننشغل بالمهم عن الأهم، وبالقشور عن اللباب، وبأعراض المرض عن المرض نفسه... هناك إمكانية مستمرة لأن ننسى أنفسنا، وننشغل بالأشياء التي تحيط بنا، ومن هنا فإن القرآن الكريم يوجهنا في عدد من الآيات إلى ضرورة الانفتاح على الذات أولاً، ومن خلالها نعبر إلى العالم بأسره، ويمكن أن نجد ذلك في قول الله – تعالى –: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)1 . وقوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)2 . وقوله: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)3 .
إن الانفتاح على الذات يعني الانفتاح على الممكن والمحوري والمعقول وعلى دائرة التأثير، أما الانفتاح على الآخرين فهو انفتاح على الهامش والمظنون والمتخيّل وعلى دائرة الاهتمام، وإن من الملاحظ اليوم أن كثيراً من الكتّاب والإعلاميين والدعاة مشغولون ببيان مساوئ الإمبريالية والصهيونية، ومشغولون ببيان أزمات و مشكلات المخالفين والمنافسين والمناوئين، مع إهمال شبه تام للانفتاح على الشأن الداخلي، وما فيه من قضايا شائكة، وعلل مستحكمة تحتاج إلى الكثير من المعالجة؛ والحجة دائماً جاهزة، وهي أننا نمر بمرحلة دقيقة جداً، وأن أمم الأرض قد تكالبت علينا، ومن ثم فإن المطلوب هو تسليط الضوء على مكائدهم ومؤامراتهم، وأن من الخيانة لمصالح الأمة تعكير الأجواء الداخلية بإبراز الأخطاء ونقاط الضعف.. بعبارة أخرى نحن في حالة طوارئ، وعلينا أن نحشد كل الطاقات لإطفاء الحرائق التي يشعلها الأعداء، لكن من اللافت أن حالة الطوارئ هذه قد تستمر أجيالاً عدة، ومع طول الزمن لا يتوفر لدينا أي شعور أننا أطفأنا شيئاً من النيران التي أشعلها الأعداء، أو تلك التي أشعلناها بسبب أخطائنا وخطايانا! ولعلي أقارب هذه المسألة في النقاط الآتية:
1ـ إذا نظرنا في سيرة نبيناـ صلى الله عليه وسلم ـ وتأملنا في أحاديثه العطرة، فإننا نجد أن الشغل الشاغل له لم يكن ما يفعله الأعداء، ولكن ما يحدث داخل المجتمع الإسلامي نفسه، ولا أبالغ إذا قلت إن أكثر من (95%) من الأحاديث النبوية كان يركز فعلاً على الشأن الداخلي، مع أن المخاطر التي تعرض لها المجتمع الإسلامي الناشئ كانت أعظم بكثير مما نتعرض له اليوم، ويكفي في الدلالة على هذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعائه يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَد في الأرض". إن الأمم العظيمة ترتد إلى الداخل بالتقوية والإصلاح والتقويم حين تشتد عليها ضغوط الخارج.
2ـ هذا الاندفاع المذهل نحو الخارج ومعالجة ما هو أشبه بالقشور في الداخل يهدف إلى شيء محدد، هو ألاّ يلتحم الوعي النقدي الناجز بالواقع المعيش؛ لأن الذي سيتكشّف عنه ذلك الالتحام يؤذي الكثير من المصالح لهذه الفئة أو تلك (النقد لايؤذي على نحو عام إلاّ الحالات المريضة)، مع أن من الواضح أننا من غير النقد والوعي النقدي لن نتمكن من فهم جوهر القيم التي نؤمن بها، كما أننا لن نتمكن من فهم القضايا التي نعيش من أجلها، ولا فهم المشكلات التي نعاني منها، وما ذلك إلاّ لأن النقد الاجتماعي ليس وسيلة لمقاومة البغي والظلم والانحراف فحسب، بل هو وسيلة لاكتشاف الذات، وإثراء الحياة، وتحقيق المعنى العميق لحرية الإنسان. إننا من خلال النقد الأصيل والعميق نكشف عن الكثير من الحقائق التي يُراد لها أن تُنسى، وبكشف الحقائق يتألف في داخلنا الكثير من المعاني النبيلة والمهمة؛ فالحقائق الساطعة تحرّر البشر من الزيف والوهم والخوف...
3 ـ الانفتاح على الذات وعلى الداخل يتطلب أن نطرح الكثير من الأسئلة: أسئلة تمس الموضوع وأسئلة تمس الذات؛ فضعف الأخلاق، وضعف التعليم، والصناعة، والتماسك الاجتماعي .. يشتمل على الكثير من الأسئلة الموضوعية ذات البعد الفني والعلمي.. ولا بد إلى جانب بحثها من طرح أسئلة تتعلق بالناس الذين كانوا السبب في الانكسارات التي نعاني منها, كما تتعلق بالثقافات والعادات والتقاليد و الضغوط الاجتماعية التي دفعت باتجاهها. إن المجتمع أشبه بالطفل يخسر الكثير من المناعة والخبرة حين نحوطه بعناية زائدة، وإن حرمان مجتمعاتنا من وضع النقاط على الحروف في كثير من الأمور لا يعنى سوى الهشاشة والضحالة، و لن يؤدي بنا إلاّ إلى العيش على هامش الأمم وهامش العصر!
4ـ يتطلب الانفتاح على الداخل نوعاً قوياً من الإحساس بالفروق بين الأشياء المتشابهة، وإلاّ كانت الفائدة محدودة. نحن نحتاج إلى أن نفرق بين الحرية والفوضى، والمحافظة والجمود، وتطبيق القوانين والاستبداد، والانفتاح وفقدان الهوية, والتيسير وتمييع الأمور...
لاشك في أن فتح عيوننا على الخارج مطلوب, ولا شك في أن مقاومة العدوان أيضاً مطلوبة, لكن علينا أن ندرك جيداً، أن تسلط الأمم الأخرى علينا ما كان له أن يوجد لولا ضعفنا الذاتي وتمزقنا الداخلي.
1- سورة الذاريات: 21
2 ـ سورة آل عمران: 165
3 - سورة آل عمران: 120
د. عبد الكريم بكار</SPAN>