تأمّلات قرآنيّة
جاءت آيات كثيرة تدعو إلى تدبر القرآن وتأمله كقوله تعالىأَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء:82]. وقولهأَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون:68]. وقولهكِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]. وقولهأَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] والتدبر هو التأمل والتفكر الممزوج بالعمل عند النظر في آيات الكون المنظورة وآيات الكتاب المسطورة للاعتبار؛ فآيات الكون المنظور هي ضمن آيات الكتاب المسطور، لنتأمل سوياً قوله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191]. صح عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"أثيروا" وفي رواية:"ثورا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين" وقال كما في المسند (5/217):"إن للقرآن مناراً كمنار الطريق فما عرفتم فيه فتمسكوا به، وما شبه عليكم فوكلوه إلى عالمه" فعلى المسلم أن يتمسك بالمعلوم له، وما كان في الحلال والحرام مما يحتاج إلى اجتهاد فيوكل إلى أهله وهم العلماء. وإثارة القرآن هي تدبّره وتأمله، لقد صوّرت آية آل عمران وما بعدها النموذج الفريد من البشر أولئك الذين تدبروا القرآن حق تدبره حتى أصبح كل واحد منهم، وكأنه مصحف يدب على الأرض ويمشي في الأسواق، لقد كان رجال ذلك الجيل من البشر على مدار الزمان يتخففون من تلاوة القرآن أو حفظه، من أجل أن يتقصدوا ويتزودوا من تأمله والعمل به، قال أبو عبد الرحمن السلمي من كبار التابعين حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات من القرآن حتى يعلموها ويعملوا بها، قال فتعلمنا العلم جميعاً. ويقول عبد الله بن عمر بن الخطاب:"لقد عشنا برهة من دهرنا وأن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وأنتم اليوم تتعلمون القرآن قبل الإيمان، فيقرأ الواحد ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره".
نعم إن أجر تلاوة القرآن عظيم كما جاء في الحديث "إن في كل حرف عشر حسنات لا أقول (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"، ولكن أجر تأمله وتدبره أعظم من أجر تلاوته، وهذا ما فهمه الصحابة وهم رواة أحاديث فضل التلاوة، فقدموا أجر التدبر على ما دونه وهو أجر التلاوة نظراً أو حفظاً، ومن الملاحظ في آيات التدبر السابق ذكرها أنها جاءت بصيغة الخبر والزجر والحكاية عن أقوام أعرضوا عن تدبر القرآن فخسروا الدنيا والآخرة. تدل آية النساء على أن تدبر القرآن بتأمل معانيه ودلالاته سبب للألفة والوحدة والاتفاق، والإعراض عن تأمله أو الاكتفاء بتلاوته فقط سبب للفرقة والاختلاف والنـزاع، وتدل آية (ص) على أن القرآن لم ينـزله الله إلا من أجل التدبر، وفي التدبر بركة في العلم والعمل، ومن أعرض عن تدبره فهو مسلوب العقل، أما الآيتان من سورة (محمد) ففيهما أن من لم يتدبر القرآن فهو مقلّد جامد فيه شبه بأهل الجاهلية حيث أقفلوا عقولهم فلا يصل إليها من ضياء العلم والنور شيء، وهذا على مستوى الأفراد والشعوب والأمم، وها هو القرآن بين أيدي الناس اليوم يتلونه صباح مساء، وهذه أحوالهم التي لا تُحمد!! فلم يغن عنهم شيئاً، وأما آية سورة (المؤمنين) فتدلّ على أن كل من لم يتدبر القرآن، ويتأمل آياته فهو جاهل بليد ومتخلف جامد، ولو كان يُشار إليه بالبنان عند قومه، نعم لقد وردت نصوص وآثار عن السلف توحي بالتحرّج والتأثم في تفسير القرآن وجاءت نصوص أخرى تدعو إلى وجوب التدبر والتأمل فاتخذ الناس الأولى إلى ما شاء الله لهم منهجاً؛ لأنها أسهل وأدعى إلى الركود والدعة بحجة التدين والورع وأعرضوا عن الثانية لما فيها من النفع والجد وامتثال الأمر، فمن النصوص المشعرة بالتأثم في تفسير القرآن وتأويله حديث جندب بن عبد الله عند أبي داود والترمذي "من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ" ومثل حديث ابن عباس عند الترمذي "من قال برأيه في القرآن أو بلا علم فليتبوأ مقعده من النار" وثبت عن أبي بكر وعمر لما سُئلا عن قوله (وفاكهة وأبا) قال أبو بكر: أي سماء تظلّني، وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وقال عمر: هذه الفاكهة عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه، وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر؟! أما حديث جندب وابن عباس فلا يصح إسنادهما؛ ففي الأول سهل بن حازم القطيعي ضعفه البخاري وأبو حاتم وغيرهما، وفي الثاني عبد الأعلى بن عامر التغلبي ضعفه الإمام أحمد والنسائي وأبو زرعة وآخرون، وكذلك العكس، وإنما قد يصيب الرجل الأمر ولا يحصل له الأجر، أما الحديث الثاني فيتعين حمل معناه لو صح سنده على من فسّر القرآن أو قال فيه برأيه من المغيبات التي لا يعلمها إلا الله كالآجال وحقيقة الجنة والنار، وكيفية صفات الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك، أو في الأحكام الشرعية من التحليل والتحريم.
ثم إن الذين حفظوا القرآن عن ظهر الغيب من الصحابة لا يتجاوز عددهم أربعة فقط (علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود) وأبو بكر وعمر ليسا منهم مع فقههما وعلمها بالقرآن، كما ذكر ذلك الإمام الذهبي وغيره، بل إن أبا بكر توفي ولم يختم القرآن، وعبد الله بن عمر بقي يحفظ سورة البقرة ثماني سنين، وهو أكثر الصحابة بعد أبي هريرة حفظاً ورواية لأحاديث رسول الله، ولما أتم حفظها ذبح بقرة شكراً لله. أكان يعجز عن حفظ هذه السورة ببضع دقائق؟! لا والله، ولكنه الفقه والتدبر قبل الحفظ وأثناء التلاوة.
قال ابن تيمية في جامع المسائل (5/41) :"إن نقلة الآثار قل فيهم الفقه والعقل كما أن ذوي النظر والاعتبار ضعف علمهم بآثار النبيين، ولن يتم الدين إلا بمعرفة الآثار النبوية، وفقه لمقاصدها الشرعية".
أما الآثار المروية عن السلف كأبي بكر وعمر في التوقف من التفسير بالرأي، فغير صحيح؛ إذ كيف يجهل أبو بكر وعمر وهما عربيان كلمة (الأبّ) في اللغة؟ وتفسير القرآن باللغة أحد أنواع التفسير كما يقول ابن عباس: "التفسير على أربعة أوجه: تفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير تعلمه العرب من كلامها، وتفسير من ادّعى علمه فهو جاهل، وتفسير تعلمه العلماء".
ثم إذا كانت آيات الأحكام (500) آية على أكثر تقدير فإن جملة آيات القرآن كما يقول ابن عباس (6600) آية، فهل يترك أكثر من ستة آلاف آية من القرآن بدعوى الورع والزهد، ثم هذه وأمثالها قضايا أعيان لا عموم لها، فلا تصح دليلاً، فكل من روي عنه التوقف من السلف في تفسير القرآن بالرأي في موضع فقد روي عنه التفسير بالرأي في موضع آخر، فهذا أبو بكر صاحب المقولة السابقة في تفسير (الأبّ) في سورة عبس فسر (الكلالة) في آية النساء برأيه لمّا سُئل عنها قال: إني سأقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان: الكلالة ما عدا الوالد والولد".
أما عمر بن الخطاب فهو أكثر أهل بدر تفسيراً للقرآن بالرأي وكثيراً ما ينـزل القرآن وفق رأيه، وهذا عبد الله بن مسعود يقول في تفسير آية البقرة (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة...) أقول فيها برأيي فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان "لها الصداق كاملاً، وعليها العدة، ولها الميراث"، ثم إن أغلب التفاسير المأثورة عن السلف من الصحابة والتابعين غير مسندة إلى الرسول فهي تفاسير بالرأي، بل كتب التفاسير المطبوعة المتداولة أغلبها تفسير بالرأي والدراية والقليل منها تفسير بالأثر والرواية.
ثم هل التفسير بالأثر المحمود إلا عين التدبر والتأمل الذي أمرنا الله به؟ وأوجبه على كل مخلوق من ذكر أو أنثى وصغير وكبير عامي ومتعلم فكيف يوجب الله علينا تدبر القرآن ومنه تفسيره، ثم يعرض الناس عنه بدعوى الورع وتعظيم القرآن؟ إنها –والله- دسيسة من دسائس الشيطان زيّنها للخاصة والعامة، وألبسها لباس الدين والورع، ورحم الله ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن يوم قال:"يأتي على الناس زمان يخلق يدرس ويبلى القرآن في قلوبهم يتهافتون فيه تهافتاً قيل وما تهافتهم؟ قال يقرأ أحدهم فلا يجد حلاوة ولا لذة يبدأ أحدهم بالسورة وإنما نهمته قصده آخرها ثم تلا قوله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:23) وإليك يا أخي طريقة سهلة للتأمل والتدبر في آيات القرآن: 1) اقرأ الآيات المراد تفسيرها من حفظك أو من المصحف مرتين أو ثلاثاً.
2) ثم اقرأ تفسيرها في تفسيرين على الأقل، واحرص على أن تكون طريقة كل مفسر تختلف عن طريقة الآخر.
3) ثم ارجع إلى تلك الآيات السابقة، واقرأها في المصحف – ولو كنت لها حافظاً- وحاول الوقوف عند كل كلمة أو حرف من الآية، وأحضر معك ورقة سجل فيها ما فهمته، وظهر لك من الآية والآيات.
4) ثم ارجع مرة أخرى إلى قراءة تفسيرها في واحد من كتب التفسير وقابله بما سجلته في ورقتك، ستجد أن نسبة كبيرة في التفسير المقروء بين يديك موجود في ورقتك، وإن اختلف الأسلوب، بل ربما ظهر لك معان صحيحة لم يذكرها ذلك المفسر.
وإذا أردت التأكد والطمأنينة على هذا المعنى الجديد الذي ظهر لك فعاود الخطوات السابقة (1، 2، 3، 4) فسيـزول عنك الإشكال، وتزداد يقيناً وإن بقيت في المعنى الجديد متردّداً فأعرضه على من هو أعلى منك في التفسير فستجده يوافقك عليه أو بعضه.
اللهم إني أسألك العلم النافع والعمل الصالح. آمين