الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلامُ على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً مزيداً , وبعد :
فإن من عقيدة السلف الصالح أن التكفير، حكم شرعي، يفتقر إلى البرهان، فلا يُكفَّر إلا من كفَّره الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وأن المعين لا يكفر، ولو أتى بما يوجب الكفر، إلا بعد إقامة الحجة عليه، وإزالة الشبهة عنه, وذلك بتوافر شروط، وانتفاء موانع.
ويقولون : (من ثبت إسلامه بقين، فلا يزول عنه إلا بقين) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(وأئمة السنة والجماعة، و أهل العلم، والإيمان، فيهم العلم، والعدل، والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، و يعدلون على من خرج منها، ولو ظلمهم، كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.. }[المائدة8 ]و يرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير، والهدى، والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم، وجهلهم، وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا .
فالمؤمنون، أهل السنة، هم يقاتلون في سبيل الله، ومن قاتلهم يقاتل في سبيل الطاغوت، كالصديق رضي الله عنه، مع أهل الردة، وكعلي ابن أبي طالب مع الخوارج المارقين، ومع الغلاة، والسبأية، فأعمالهم خالصة لله تعالى، موافقة للسنة، وأعمال مخالفيهم لا خالصة،ولا صواب، بل بدعة، واتباع الهوى. ولهذا يسمون أهل البدع، وأهل الأهواء.
قال الفضيل بن عياض، رحمه الله في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } أخلصه، وأصوبه. قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه و أصوبه ؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً، لم يقبل. وإذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً، لم يقبل، حتى يكون خالصاً،صواباً.والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة
فلهذا كان أهل العلم و السنة لا يكفرون من خالفهم، و إن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله؛ لأن الكذب، و الزنا، حرام لحق الله تعالى، و كذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله.
و أيضا فإن تكفير الشخص المعين، و جواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها، و إلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر. ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة، والتابعين، كـ "قدامة بن مظعون" و أصحابه شرب الخمر, و ظنوا أنها تباح لمن عمل صالحاً، على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة؛ كـ "عمر، و علي، وغيرهما" على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا. فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء، لأجل الشبهة التي عرضت لهم، حتى يتبين لهم الحق، فإذا أصروا على الجحود، كفروا.
وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: إذا أنا مت، فا سحقوني، ثم ذروني، في اليم، فو الله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا ما عذبه أحداً من العالمين. فأمر الله البر فرد ما أخذ منه، و أمر البحر فرد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب. فغفر له. فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، و أنه لا يعيده، أو جوز ذلك، و كلاهما كفر، لكن كان جاهلاً، لم يتبين له الحق بياناً يكفر بمخالفته. فغفر الله له