الحمد لله رب العالمين, والصَّلاة, والسَّلام على رسول الله, وعلى آله, وصحبه أجمعين, وبعد :
فقد أمر الله - عز وجل- ورسوله, -صلى الله عليه وسلم- بالاجتماع على الكتاب والسنة, وبالألفة, والمحبة, والبعد عن الشقاق, والبغضاء, والفرقة, وبين الله ورسوله أسباب ذلك, ومفاسده, وعواقبه,في غير ما موضع, من الكتاب والسنة.
يَقوْلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
"قَاعِدَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرْقَةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ وَنَتِيجَتُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ))[ الشورى 13]. أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَمَا وَصَّى بِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورِينَ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقُ فِي قَوْلِهِ : (( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ))[ الأحزاب7]. وَقَوْلِهِ : (( مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ )), فَجَاءَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ بَاسِمِ الَّذِي, وَبِلَفْظِ الْإِيحَاءِ، وَفِي سَائِرِ الرُّسُلِ بِلَفْظِ " الْوَصِيَّةِ " .
ثُمَّ قَالَ : (( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ )), وَهَذَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ، و ( أَنْ ) : الْمُفَسِّرَةُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ فِعْلٍ, مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ لَا مِنْ لَفْظِهِ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : (( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ )) . (( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ))[ النساء 131], وَالْمَعْنَى قُلْنَا لَهُمْ : اتَّقُوا اللَّهَ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : (( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ )), فِي مَعْنَى قَالَ : لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ رُسُلًا, قُلْنَا أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فَالْمَشْرُوعُ لَنَا هُوَ الْمُوصَى بِهِ، وَالْمُوحَى، وَهُوَ : (( أَقِيمُوا الدِّينَ ))؛ فَأَقِيمُوا الدِّينَ مُفَسِّرٌ لِلْمَشْرُوعِ لَنَا الْمُوصَى بِهِ الرُّسُلُ، وَالْمُوحَى إلَى مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَدْ يُقَالُ : الضَّمِيرُ فِي أَقِيمُوا عَائِدٌ إلَيْنَا . وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْمُرْسَلِ . وَيُقَالُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْجَمِيعِ . وَهَذَا أَحْسَنُ وَنَظِيرُهُ . أَمَرْتُكَ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ زَيْدًا . أَنْ أَطِعْ اللَّهَ، وَوَصَّيْتُكُمْ بِمَا وَصَّيْتُ بَنِي فُلَانٍ : أَنْ افْعَلُوا . فَعَلَى الْأَوَّلِ : يَكُونُ بَدَلًا مِنْ ( مَا ) أَيْ شَرَعَ لَكُمْ أَنْ أَقِيمُوا وَعَلَى الثَّانِي : شَرَعَ ( مَا خَاطَبَهُمْ . أَقِيمُوا فَهُوَ بَدَلٌ أَيْضًا، وَذَكَرَ مَا قِيلَ لِلْأَوَّلِينَ . وَعَلَى الثَّالِثِ : شَرَعَ الْمُوصَى بِهِ ( أَقِيمُوا ) فَلَمَّا خَاطَبَ بِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا مَقُولَةٌ لَنَا، وَمَقُولَةٌ لَهُمْ : عَلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا . وَهَذَا أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ, يَرْجِعُ إلَى هَذَا، فَإِنَّ الَّذِي شُرِعَ لَنَا : هُوَ الَّذِي وَصَّى بِهِ الرُّسُلَ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الدِّينِ, وَالنَّهْيُ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ؛ وَلَكِنَّ التَّرَدُّدَ فِي أَنَّ الضَّمِيرَ تَنَاوَلَهُمْ لَفْظُهُ؛ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ قِيلَ لَنَا مِثْلُهُ؛ أَوْ بِالْعَكْسِ؛ أَوْ تَنَاوَلَنَا جَمِيعًا.
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ الْأَوَّلِينَ والآخرين, بِأَنْ يُقِيمُوا الدِّينَ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَاَلَّذِي أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَيَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَوْحَاهُ إلَى مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَدْخُلُ فِيهِ شَرِيعَتُهُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِنَا؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَدْ أَوْحَاهُ إلَيْهِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ, بِخِلَافِ نُوحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ؛ فَإِنَّمَا شَرَعَ لَنَا مِنْ الدِّينِ مَا وُصُّوا بِهِ؛ مِنْ إقَامَةِ الدِّينِ، وَتَرْكِ التَّفَرُّقِ فِيهِ . وَالدِّينُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ : هُوَ الْأُصُولُ . فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ شَرَعَ لَنَا الدِّينَ الْمُشْتَرَكَ؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ, وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ, وَالدِّينُ الْمُخْتَصُّ بِنَا؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ الْخَاصُّ . الثَّانِي : أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُخْتَصِّ, وَنَهَانَا عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ الْمُشْتَرَكِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ التَّفَرُّقِ فِيهِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَمَّا فَصَلَ بِقَوْلِهِ : (( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ )) بَيْنَ قَوْلِهِ : (( مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا )), وَقَوْلِهِ : (( وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى )), أَفَادَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : (( وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ))[ الشورى 14]. فَأَخْبَرَ أَنَّ تَفَرُّقَهُمْ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ مَجِيءِ الْعِلْمِ الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَا كَانَ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ . [ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَا تَفَرَّقُوا إلَّا بَغْيًا، وَالْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ ....: الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ ] ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّفَرُّقِ عَنْ اجْتِهَادٍ لَيْسَ فِي عِلْمٍ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الْبَغْيَ كَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ السَّائِغِ، وَالْبَغْيُ إمَّا تَضْيِيعٌ لِلْحَقِّ، وَإِمَّا تَعَدٍّ لِلْحَدِّ؛ فَهُوَ إمَّا تَرْكُ وَاجِبٍ، وَإِمَّا فِعْلُ مُحَرَّمٍ؛ فَعُلِمَ أَنَّ مُوجِبَ التَّفَرُّقِ هُوَ ذَلِكَ . وَهَذَا كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : (( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))[ المائدة 14]. فَأَخْبَرَ أَنَّ نِسْيَانَهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ - وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِبَعْضِ مَا أُمِرُوا بِهِ - كَانَ سَبَبًا لِإِغْرَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَهَكَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَهْلِ مِلَّتِنَا؛ مِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُتَنَازِعَةِ فِي أُصُولِ دِينِهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ فُرُوعِهِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ؛ وَمِثْلَمَا نَجِدُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ, وَبَيْنَ الْعِبَادِ؛ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الموسوية, أَوْ العيسوية, حَتَّى يَبْقَى فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ : لَيْسَتْ الْأُخْرَى عَلَى شَيْءٍ . كَمَا نَجِدُ الْمُتَفَقِّهَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْ الدِّينِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ, وَالْمُتَصَوِّفَ الْمُتَمَسِّكَ مِنْهُ بِأَعْمَالِ بَاطِنَةٍ, كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِي طَرِيقَةَ الْآخَرِ, وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، أَوْ يُعْرِضُ عَنْهُ إعْرَاضَ مَنْ لَا يَعُدُّهُ مِنْ الدِّينِ؛ فَتَقَعُ بَيْنَهُمَا الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ . وَذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ، وَأَمَرَ بِطَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَكِلَا الطَّهَارَتَيْنِ مِنْ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ . قَالَ تَعَالَى : (( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)),[ المائدة 6], وَقَالَ : (( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )),[ التوبة 108], وَقَالَ : (( إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ))[ البقرة 222], وَقَالَ : (( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا))[ التوبة 103], وَقَالَ : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ))[ المائدة 41], وقال : (( إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ )),[ التوبة 28], وَقَالَ : (( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ))[ الأحزاب 33]. فَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ، إنَّمَا هِمَّتُهُ طَهَارَة الْبَدَنِ فَقَطْ، وَيَزِيدُ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا, وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ إيجَابًا، أَوْ اسْتِحْبَابًا، وَلَا يَفْهَمُ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَّا ذَلِكَ. وَنَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ، إنَّمَا هَمَّتْهُ طِهَارَةُ الْقَلْبِ فَقَطْ؛ حَتَّى يَزِيدَ فِيهَا عَلَى الْمَشْرُوعِ اهْتِمَامًا وَعَمَلًا؛ وَيَتْرُكُ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ مَا أُمِرَ بِهِ إيجَابًا، أَوْ اسْتِحْبَابًا. فَالْأَوَّلُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي كَثْرَةِ صَبِّ الْمَاءِ، وَتَنْجِيسِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ، وَاجْتِنَابِ مَا لَا يُشْرَعُ اجْتِنَابُهُ, مَعَ اشْتِمَالِ قُلُوبِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ لِإِخْوَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مُشَابَهَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْيَهُودِ . وَالْآخَرُونَ يَخْرُجُونَ إلَى الْغَفْلَةِ الْمَذْمُومَةِ، فَيُبَالِغُونَ فِي سَلَامَةِ الْبَاطِنِ, حَتَّى يَجْعَلُونَ الْجَهْلَ بِمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الشَّرِّ - الَّذِي يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ - مِنْ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ سَلَامَةِ الْبَاطِنِ مِنْ إرَادَةِ الشَّرِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبَيْنَ سَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ الْمَعْرِفَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا, ثُمَّ مَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ, قَدْ لَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ، وَيُقِيمُونَ الطِّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ مُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى . وَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ؛ بِسَبَبِ تَرْكِ حَظٍّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ, وَالْبَغْيِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ إمَّا تَفْرِيطًا وَتَضْيِيعًا لِلْحَقِّ، وَإِمَّا عُدْوَانًا وَفِعْلًا لِلظُّلْمِ . وَالْبَغْيُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ, وَتَارَةً يَكُونُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ, وَلِهَذَا قَالَ : (( بَغْيًا بَيْنَهُمْ )) فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ بَغَتْ عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمْ تَعْرِفْ حَقَّهَا الَّذِي بِأَيْدِيهَا, وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا . وَقَالَ تَعَالَى : (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ )),[ البينة 4], وَقَالَ تَعَالَى : (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ )),[ البقرة 113], وَقَالَ تَعَالَى : (( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ )) الْآيَةَ,[ الجاثية 16], وَقَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مِثْلَ ذَلِكَ, وَقَالَ : (( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ )),[ آل عمران 105], وَقَالَ : (( إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ )),[ الأنعام 159], وَقَالَ : (( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ))[ الروم 30], (( مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[ الروم 31] (( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )),[ الروم 32], لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْبُدُ إلَهًا يَهْوَاهُ . كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : (( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ )) وَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ))[ المؤمنون 51], (( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )) [ المؤمنون52], (( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ))[ المؤمنون 53] . فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ جَمْعُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَاطِنًا، وَظَاهِرًا . وَسَبَبُ الْفُرْقَةِ : تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ، وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ . وَنَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ : رَحْمَةُ اللَّهِ، وَرِضْوَانُهُ، وَصَلَوَاتُهُ، وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ . وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ : عَذَابُ اللَّهِ، وَلَعْنَتُهُ، وَسَوَادُ الْوُجُوهِ، وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مِنْهُمْ . وَهَذَا أَحَدُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، فَإِنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ بِذَلِكَ, مَرْحُومِينَ، فَلَا تَكُونُ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ : بِفِعْلِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ مِنْ اعْتِقَادٍ، أَوْ قَوْلٍ، أَوْ عَمَلٍ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ، أَوْ الْعَمَلُ الَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ, لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ, لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ، وَلَا سَبَبًا لِرَحْمَتِهِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي أَوَّلِ " التَّنْبِيهِ ", نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ"
المصدر : موقع العقيدة