حسن الظن بالله
للشيخ / الناغى بن عبد الحميد العريان
جمهورية مصر العربية
المقدمة
الحمد لله الذى أرشد الخلق إلى أكمل الآداب . وفتح لهم من خزائن رحمته كل باب . أنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق وطلبوا الثواب . وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين نوره حجاب . هدى أولئك بفضله ورحمته وأضل الآخرين بعدله وحكمته، إن فى ذلك لذكرى لأولى الألباب . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . الملك العزيز الوهاب . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بأجل العبادات وأكمل الآداب . صلى الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب . وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب . وسلم تسليماً .أما بعد : فإن حسن الظن بالله تعالى يعني اعتقاد ما يليق بالله تعالى من أسماء وصفات وأفعال ، واعتقاد ما تقتضيه من آثار جليلة ، كاعتقاد أن الله تعالى يرحم عباده المستحقين ، ويعفو عنهم إن هم تابوا وأنابوا ، ويقبل
منهم طاعاتهم وعبادتهم ، واعتقاد أن له تعالى الحِكَم الجليلة فيما قدَّره وقضاه .
ومن ظنَّ أن حسن الظن بالله تعالى ليس معه عمل : فهو مخطئ ولم يفهم هذه العبادة على وجهها الصحيح ، ولا يكون حسن الظن مع ترك الواجبات ، ولا مع فعل المعاصي ، ومن ظنَّ ذلك فقد وقع في الغرور ، والرجاء المذموم ، والإرجاء المبتدع ، والأمن من مكر الله ، وكلها طوام ومهالك . ومعنى حسن الظن بالله ، بأن يظن أنه يرحمه ويعفوا عنه ، أي عندما يكون في حالة الصحة يكون خائفا راجيا فإذا دنت آمارات الموت غلب عليه الرجاء لأن مقصود الخوف ، الابتعاد عن المعاصي ، الحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال ، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال ، فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى ، والإذعان له ويؤيده الحديث الذي بعده .وقد أفاد الحديث التحذير من اليأس والقنوط ، والحث على الرجاء ، وخاصة عند دنو الأجل . وللبخارى ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا قال الله تعالى : « " أنا عند ظن عبدي بي » زاد أحمد (1) . وابن حبان « " إن ظن بي خيرا فله وإن ظن بي شرا فله » . ومعناه أنا أعامله على حسن ظنه بي ، وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر ، والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف ، وحسن الظن بالله . قال القرطبي قيل معنى ظن عبدي بي ، أي ظن الإجابة عند الدعاء ، وظن القبول عند التوبة ، وظن المغفرة عند الاستغفار ، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصادق وعده ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : « " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة » ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه ، موقنا بأن الله يقبله ويغفر له ، لأنه وعد بذلك ، وهو لا يخلف الميعاد ، فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها ، وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله ، وهو من الكبائر ، ومن مات على ذلك وُكل إلى ما ظن فإن كان خيرا فخير وإن ظن غير ذلك فله . .
رواه البخاري التوحيد 13 / 466 رقم 7505 ومسلم الذكر 4 / 2067 رقم 2675 . ورواه البخاري 13 / 384 رقم 7405 ومسلم التوبة 4 / 2102 رقم 2675 والذكر 4 / 2061 رقم 2675 مطولا .
الناغى بن عبد الحميد العريان
ترعة غنيم - شربين - دقهلية
جمهورية مصر العربية
_________
(1) رواه أحمد في المسند 2 / 391 وابن حبان في صحيحه 2 / 405 رقم 639 .
يقول الله تعالى : {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} الآية.آل عمران 154
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا بابٌ عظيم، فقولُه- رحمه الله تعالى-( نقصد هنا تبويب الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فى كتابه التوحيد ) " باب قول الله تعالى " : {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} .
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنّ حسن الظنّ بالله سبحانه وتعالى من واجبات التّوحيد، وسوء الظنّ بالله عزّ وجلّ ينافي التّوحيد، هذا وجه المناسبة لهذا الباب في كتابه التّوحيد.
قولُه : " باب قول الله تعالى" يعني : ما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة من آل عمران والآية الثانية من سورة الفتح، كلاهُما في موضوع واحد، وهو: سوء الظنّ بالله سبحانه وتعالى وما توعّد الله عليه من العذاب
والعُقوبة، لأنّه ينافي التّوحيد. ففي سورة آل عمران سمّاه ظنّ الجاهليّة، وفي سورة الفتح سمّاه ظنّ السّوء. قال في سورة آل عمران: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} لأنّ الجاهلية عدم العلم، فالذي ظنّ هذا الظنّ الخاطئ سببه عدم العلم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحمْدِه وحكمته. وقوله : {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} سورة الفتح 6قال ابن القيم في الآية الأولى : " فُسِّر هذا الظنّ بأنه سبحانه لا ينصُر رسولَه، وأن أمره سيضمحل. وفسّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففُسّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتِمّ أمرَ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يُظهره على الدين كلِّه.ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال في سورة الفتح: {ظَنَّ السَّوْءِ} يعني: إساءة الظنّ بالله عزّ وجلّ، وهو يخالف حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ، فحسن الظنّ بالله توحيد وسوء الظنّ بالله كفر. ثم ذكر الشيخ رحمه الله كلام ابن القيِّم في تفسير الآيتين، وساقه من " زاد المعاد في هدي خيرِ العباد" باختصار.
" قال ابن القيِّم : فُسِّر هذا الظن في الآية الأولى" يعني: آية آل عمران. "بأنّه سبحانه لا ينصُر رسولَه" وهذا ظنّ الجاهليّة. "وأنّ أمرَه سيضمحلّ" وهذا تكذيبٌ لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ،
والتكذيب لوعد الله كفر.( 1 ) ومن خلال الآيتين السابقتين يتضح لنا أنّ حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ واجبٌ من واجبات التّوحيد.
-------------------
(1) اعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح بن فوزان 2 / 241
ثانياً: أن سوء الظنّ بالله سبحانه وتعالى ينافي التّوحيد أو ينافي كمالَه، ينافي أصلَه إذا زاد وكثُر واستمرّ، أو ينافي كمالَه إذا كان شيئاً عارضاً أو شيئاً خفيفاً أو خاطراً في النّفس فقط ولا يتكلّم به بلسانِه، أمّا إنْ تكلّم به بلسانِه فإنّه يكونُ منافياً للتّوحيد.
رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَكَّارٍ رحمه الله تعالى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ : أَنْ لَا تَجْمَعَك وَالْفُجَّارَ دَارٌ وَاحِدَةٌ . وَدَعَا رَجُلٌ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ : لَا تُعَذِّبْنَا بِالنَّارِ بَعْدَ أَنْ أَسْكَنْت تَوْحِيدَك قُلُوبَنَا , ثُمَّ بَكَى وَقَالَ مَا إخَالُك تَفْعَلُ بِعَفْوِك , ثُمَّ بَكَى وَقَالَ وَلَئِنْ عَذَّبْتنَا بِذُنُوبِنَا لَتَجْمَعَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْوَامٍ طَالَ مَا عَادَيْنَاهُمْ فِيك . وَقَالَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام : اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ مَنْ كَانَ يُشْرِكُ بِك بِمَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِك . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ * } قَالَ : وَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِنَا لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ أَتُرَاك تَجْمَعُ بَيْنَ أَهْلِ
الْقِسْمَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ . ثُمَّ بَكَى أَبُو حَفْصٍ الصَّيْرَفِيُّ بُكَاءً شَدِيدًا . ( الثَّانِي ) : ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى سَعَةِ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كَافٍ , وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ وَجَهْلٌ فَضِيحٌ , فَإِنَّ رَجَاءَك لِمَرْحَمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنْ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ كَمَا قَالَهُ مَعْرُوفٌ رَحِمَهُ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْك فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ رُبْعِ دِينَارٍ لَا تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا . وَلَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالتَّمَنِّي . وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّجَاءَ يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي الْإِتْيَانِ بِأَسْبَابِ الظَّفَرِ وَالْفَوْزِ . وَالتَّمَنِّي حَدِيثُ النَّفْسِ بِحُصُولِ ذَلِكَ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ . قَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ *} فَطَوَى سُبْحَانَهُ بِسَاطَ الرَّجَاءِ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحُ الْكُبْرَى : الرَّجَاءُ لِعَبْدٍ قَدْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , فَمَثُلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَجَنَّتِهِ , فَامْتَدَّ الْقَلْبُ مَائِلًا إلَى ذَلِكَ شَوْقًا إلَيْهِ وَحِرْصًا عَلَيْهِ , فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَادِّ عُنُقَهُ إلَى مَطْلُوبٍ قَدْ صَارَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ . قَالَ وَعَلَامَةُ الرَّجَاءِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّاجِيَ لِخَوْفِ فَوْتِ الْجَنَّةِ وَذَهَابِ حَظِّهِ مِنْهَا يَتْرُكُ مَا يَخَافُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِهَا . وَأَمَّا الْأَمَانِيُّ فَإِنَّهَا رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ , أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ الرَّجَاءِ , وَتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ , وَهِيَ تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ تَزَاحَمَتْ عَلَيْهِ وَسَاوِسُ النَّفْسِ فَأَظْلَمَ مِنْ دُخَانِهَا , فَهُوَ يَسْتَعْمِلُ قَلْبَهُ فِي شَهَوَاتِهَا , وَكُلَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنَّتْهُ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ وَالنَّجَاةَ , وَأَحَالَتْهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ , وَالْفَضْلِ , وَأَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ وَلَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ وَلَا تُنْقِصُهُ الْمَغْفِرَةُ وَيُسَمِّي ذَلِكَ رَجَاءً , وَإِنَّمَا هُوَ وَسَاوِسُ وَأَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ تَقْذِفُ بِهَا النَّفْسُ إلَى الْقَلْبِ الْجَاهِلِ فَيَسْتَرْوِحُ إلَيْهَا قَالَ تَعَالَى { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا *} فَإِذَا قَالَتْ لَك النَّفْسُ أَنَا فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ فَطَالِبْهَا بِالْبُرْهَانِ , وَقُلْ هَذِهِ أُمْنِيَّةٌ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَالْكَيِّسُ يَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ عَلَى الطَّمَعِ وَالرَّجَاءِ . وَالْأَحْمَقُ الْعَاجِزُ يُعَطِّلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَيَتَّكِلُ عَلَى الْأَمَانِيِّ الَّتِي يُسَمِّيهَا رَجَاءً . وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ وَالرَّجَاءِ إنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَسَاقَ إلَيْهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَنَافِعٌ , وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَقَامَاتِ . وَحُسْنُ الظَّنِّ هُوَ الرَّجَاءُ , فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ حَادِيًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ زَاجِرًا لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ , وَمَنْ كَانَتْ بَطَالَتُهُ رَجَاءً , وَرَجَاؤُهُ بِطَالَةً وَتَفْرِيطًا فَهُوَ الْمَغْرُورُ , وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأُمُورِ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ
أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مُغِلِّهَا مَا يَنْفَعُهُ , فَأَهْمَلَهَا بِلَا حَرْثٍ وَلَمْ يَبْذُرْهَا وَحَسُنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مُغِلِّهَا مِثْلُ مَا أَتَى مَنْ حَرَثَ وَبَذَرَ وَسَقَى وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ , وَكَذَا لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ , أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لِلْعِلْمِ , وَبَذْلِ مَجْهُودِهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَتَقْيِيدِ شَوَارِدِهِ وَتَحْقِيقِ فَوَائِدِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ , وَكَذَا مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ , وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ , مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا امْتِثَالٍ لِمَا أَمَرَ تَعَالَى بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ , فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَيُعَدُّ مِنْ أَحْمَقِ الْحُمَقَاءِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ أُمُورًا :
أَحَدُهَا : مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ .
الثَّانِي : خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ .
الثَّالِثُ : سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ , وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ , وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إذَا خَافَ أَسْرَعَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم { مَنْ خَافَ أَدْلَجَ , وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ * } وَهُوَ جَلَّ شَأْنُهُ إنَّمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ . فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا حَثَّ صَاحِبَهُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَسُنَ ظَنُّهُ بِاَللَّهِ مَعَ انْهِمَاكِهِ فِي اللَّذَّاتِ وَانْكِبَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَوَامِرِ وَالطَّاعَاتِ فَهُوَ مِنْ الْحُمْقِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ , وَإِنَّمَا الَّذِي عَلَيْهِ أَمَانِيُّ وَغُرُورٌ . وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ , وَقَدْ ذَكَرْت فِي كِتَابِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا فَإِنْ رَاجَعْته ظَفِرْت بِمُرَادِك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثُ ) : الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالرَّغْبَةِ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ , وَالرَّغْبَةَ طَلَبٌ , فَهِيَ ثَمَرَةُ الرَّجَاءِ . فَإِنَّهُ إذَا رَجَا الشَّيْءَ طَلَبَهُ , وَالرَّغْبَةُ مِنْ الرَّجَا كَالْهَرَبِ مِنْ الْخَوْفِ . فَمَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَرَغِبَ فِيهِ , وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ . قَالَ تَعَالَى { يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا * وَاَللَّهُ أَعْلَمُ } . (1)
الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عزّ وجلّ: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟!، إني قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله : "باب ما جاء في الإقسام على الله " الإقسام على الله هو: الحلف على الله، فإن كان هذا الحلف على الله. بأنّه لا يرحم عباده ولا يغفرُ لهم ولا يُدخل أحداً منهم الجنّة فهذا محرَّم، وهو سوء أدبٍ مع الله تعالى، لأنّ معناه: الحجّر على الله تعالى، ولا أحدٌ يمنع الله من أن يتصرّف في خلقه، وأن يرحم من شاء ويعذِّب من شاء، وأن يغفر لمن شاء؟.فالذي يفعل هذا قد أساء الأدب مع الله، وتنقّص الله سبحانه وتعالى، فهذا النوع يُعتبر مُخلاً بالتّوحيد.فلذلك عقد المصنِّف رحمه الله هذا الباب، وأجمل في الترجمة فقال : "باب ما جاء في الإقسام على الله" لأنّ الإقسام على الله له احتمالان أو وجهان :
الاحتمال الأوّل : هو ما ذكرنا، وهذا ممنوع وحرام، ومخلٌّ بالعقيدة.
النوع الثاني من الاقسام على الله: أن يكون على وجه حسن الظنّ بالله أن يفعل الخير، وأن يغفر لعباده وأن يسقيهم المطر، وأن ينصرهم على الأعداء، فهذا لا بأس به، لأنّه حسن ظنٍّ بالله .
وقد جاء في الحديث : " إنَّ مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأَبَرَّه" ، وقال النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رُبَّ أشعث أغبر ذي طِمْرين، مدفوع بالأبواب؛ لو أقسم على الله لأبرَّه " .( 2 )
-------------------
( 1) شرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 33 / ص 375)
( 2) اعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد 2 / 301
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ ، إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ ، فَإِنَّ قَوْماً قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت 4 / 2205 ، 2206 ح 2877 ، و أبو داود في كتاب الجنائز ، باب ما يستحب من حسن الظن بالله عند الموت ، 3/ 189 ح3113 ، وابن ماجه في كتاب الزهد باب التوكل واليقين 2/1395 ح4167 ، وأحمد 3/293ح 14157 و 3/315 ح14426 و 3/325ح14521 و 3/330ح14572 و 3/334ح 14620 3/390ح 15234 - واللفظ له - كلهم عن جابر بن عبد الله ( مثله ).
قال الإمام النووي رحمه الله : قال العلماء : معنى حسنِ الظنِ بالله تعالى ، أن يظن أنه يرحمهُ ، ويعفو عنه ، قالوا : وفى حالة الصحة يكون خائفاً ،
راجياً ، ويكونان سواء ، وقيل : يكون الخوف أرجح ، فإذا دنت أماراتُ الموتِ ، غلَّبَ الرجاء ، أو محضه ، لأن مقصودَ الخوفِ الإنكفافُ عن المعاصى ، والقبائح ، والحرص على الإكثارِ من الطاعات ، والأعمال ، وقد تعذر ذلك ، أو معظمهُ في هذا الحالِ ، واستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار الى الله تعالى ، والاذعانِ له .
قال المناوي رحمه الله : أكبر الكبائر سوء الظن بالله ، فهو أكبر الكبائر الاعتقادية بعد الكفر ، لأنه يؤدي إليه . والله تعالى ، عند ظن عبده به ، لكن كما يجب على العبد إحسان الظن بربه ، يجب عليه أن يخاف عقابه ، ويخشى عذابه ، فطريق السلامة بين طريقين مخوفين ، مهلكين ، طريق الأمن ، وطريق اليأس وطريق الرجاء والخوف ، هو العدل بينهما ، فمتى فقدت الرجاء ، وقعت في طريق الخوف ، ومتى فقدت الخوف ، وقعت في طريق الأمن، فطريق الاستقامة ، ممتد بينهما ، فإن ملت عنه يمنة أو يسرة هلكت ، فيجب أن تنظر إليهما جميعاً ، وتركب منهما طريقاً دقيقاً وتسلُكَهُ ، نسأل الله السلامة .( 1 )
-------------------
( 1 ) البرزخ : رسالة دكتوراه للشيخ محمد حيدر 1 / 10 وما بعدها .
الفأل الحسن من حسن الظن بالله
" عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا عدوى ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا صفر » أخرجاه (1) زاد مسلم : « ولا نوء ، ولا غول » (2) . وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة" [متفق عليه].في هذا الحديث العظيم بيان أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الفأل لما فيه من إدخال السرور على النفس من غير اعتماد عليه.والفرق بين الطيرة والفأل: أن الطيرة: لا تكون إلا فيما يسوء، مثل أن يعزم المرء على سفر أو زواج فيرى أو يسمع ما يكره، فيترك ما عزم عليه.
وحكمها : شرك أصغر، وفيها سوء ظن بالله من غير سبب محقق، وإنما أوهام وخيالات، واعتماد القلب على غير الله.أما الفأل، فإنه لا يكون إلا فيما يسر، وفسره - صلى الله عليه وسلم - بالكلمة الطيبة يسمعها الإنسان فيسر ويقوى رجاؤه وثقته بالله، مثل أن يكون الإنسان مريضًا فيسمع من يقول: يا سالم فيقع في ظنه أنه يشفى من مرضه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، لما فيه من إدخال السرور على النفس من غير اعتماد عليه. وهو مستحب لما فيه من حسن الظن بالله عز وجل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل"[رواه أبو داود].
قوله : « ويعجبني الفأل " قالوا : وما الفأل؟ قال :" الكلمة الطيبة » ( 3 ) : كان -عليه الصلاة والسلام- يحب الفأل وفسره بأنه الكلمة الطيبة ؛ لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها ، وأنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات ، يكون من باب حسن الظن بالله- جل وعلا- ، فالفأل حسن ظن بالله ، والتشاؤم سوء ظن بالله- جل وعلا- ؛ ولهذا كان الفأل ممدوحا ومحمودا ، والشؤم مذموما .ومعلوم أن العبد مأمور بأن يحسن الظن بالرب- جل وعلا- ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يتفاءل ، وكل ذلك من تعظيم الله جل وعلا- وحسن الظن به وتعلق القلب به ، وأنه لا يفعل للعبد إلا ما هو أصلح له .
-------------------
(1) أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220) .
(2) من رواية جابر (2222) .
(3) أخرجه البخاري في (5776) ومسلم (2224) .
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : « ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل » . الطيرة : يعني التأثر بالكلمة ؛ لأننا ذكرنا أن الطيرة عامة تشمل الأقوال والأعمال التي تحصل أمام العبد ، فإذا كان ثم تطير فإن أحسنه الفأل ، يعني : أن يقع في قلبه أنه سيحصل له كذا وكذا من جراء كلمة سمعها ، أو من جراء فعل حصل له . وأحسن ذلك الفأل وغيره مذموم ، وإنما كان الفأل محمودا وممدوحا ومأذونا به ؛ لما ذكرنا من أنه إذا تطير متفائلا فإنه محسن الظن بالله- جل وعلا- لأن التفاؤل يشرح الصدر ، ويؤنس العبد ، ويذهب الضيق الذي يوحيه الشيطان ويسببه في قلب العبد ، والشيطان يأتي للعبد فيجعله يتوهم أشياء تضره وتحزنه فإذا فتح العبد على قلبه باب التفاؤل أبعد عن قلبه باب تأثير الشيطان في النفس .( 1 )
فإذا علم العبد عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في حلمه ورحمته ومنه وفضله، أحس أنه لا يزال بخير ما كان مع الله جَلَّ جَلالُهُ، كذلك يحس أنه مادامت هذه الأمم كلها تنادي الله جَلَّ جَلالُهُ في لحظة واحدة والله يسمعها ويراها، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيرحمه كما رحمهم، وسيلطف به كما لطف بهم، ولكن ما عمل الإنسان إلا أن يوقن بالله جَلَّ جَلالُهُ وأن يسلم لله قلبه، فلا تضيق عليك أي ضائقة ولا تنزل بك أي ملمة إلا أحسنت الظن بالله عَزَّ وَجَلَ. من الأمور التي يستفيدها الحاج في حجه: حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَ؛ لأنك إذا رأيت هذه الأمم كلها وتعلم علم اليقين أن فيهم المغفور والمرحوم ولربما -ونحن لا نستكثر على الله ولا نستبعد على الله وليس على الله بعزيز- أن يقول لأهل الموقف كلهم: انصرفوا قد غفرت لكم. "بغي من بغايا بني إسرائيل زانية -أعاذنا الله وإياكم- مرت على كلب يلهث الثرى فرحمته فملأت خفها وسقته، فشكر الله لها فغفر لها ذنوبها"، فقط بشربة ماء، ورجل مر على غصن شوك، وهو مطروح في طريق المسلمين، أخذته الشفقة فأحب الإحسان، وقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين، فزحزحه عن الطريق فزحزحه الله عن نار جهنم، هذا الرب الكريم الحليم الرحيم، ليس هناك للعبد مثل حسن الظن بالله جَلَّ جَلالُهُ.
ولذلك في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له). من ظن بالله شراً -والعياذ بالله- كالذين يعكفون على الأشجار والأحجار والقبور ويضغون بأصحابها ، ويضيفون عليهم الألقاب والكلمات -------------------
( 1 ) التمهيد لشرح كتاب التوحيد 1 / 479
التي لا تليق إلا بالله جَلَّ جَلالُهُ، تعالى الله عما يقول المشركون علواً عظيماً. هؤلاء في خيبتهم وخسارتهم لأنهم أساءوا الظن بالله عَزَّ وَجَلَ، ما عرفوا الله عَزَّ وَجَلَ، فلو عرفوه ما التفتوا إلى شيء سواه -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك إذا أحسن العبد ظنه بالله عز وجل تلقاه الله برحمته وفاز بعفوه ومغفرته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشملنا بذلك العفو والمغفرة.
مَطْلَبٌ : فِى حُسْنِ الظَّنِّ
يقول ابن القيم رحمه الله : فَهَذَا حَالُ السَّلَفِ رَجَاءٌ بِلَا إهْمَالٍ , وَخَوْفٌ بِلَا قُنُوطٍ . وَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ ( وَلَاقِ ) أَيُّهَا
الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( بِحُسْنِ الظَّنِّ ) بِاَللَّهِ تَعَالَى رَبَّك ) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ , فَإِنَّهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ , فَإِنْ لَقِيته وَأَنْتَ حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ ( تَسْعَدْ ) السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ , وَتَسْلَمْ السَّلَامَةَ السَّرْمَدِيَّةَ . وَمَفْهُومُهُ أَنَّك إنْ لَمْ تُلَاقِيهِ بِحُسْنِ الظَّنِّ تَشْقَ شَقَاوَةَ الْأَبَدِ , وَتَعْطَبُ عَطَبًا مَا عَطِبَهُ غَيْرُك أَنْتَ وَأَمْثَالُك فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ ذَكَرَنِي *} الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ الْعِبَادَةُ }* وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ { إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ }* . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ : { لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ }* . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَيَّانَ أَبِي النَّضْرِ قَالَ خَرَجْت عَائِدًا لِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَقِيت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ وَهُوَ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ , فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ , فَلَمَّا رَأَى وَاثِلَةَ بَسَطَ يَدَهُ وَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيْهِ , فَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ حَتَّى جَلَسَ فَأَخَذَ يَزِيدُ بِكَفَّيْ وَاثِلَةَ فَجَعَلَهُمَا عَلَى وَجْهِهِ , فَقَالَ لَهُ وَاثِلَةُ كَيْفَ ظَنُّك بِاَللَّهِ ؟ قَالَ ظَنِّي بِاَللَّهِ وَاَللَّهِ حَسَنٌ , قَالَ فَأَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي , إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ }* . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ " {وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاَللَّهِ الظَّنَّ إلَّا أَعْطَاهُ ظَنَّهُ وَذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ }. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: {أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ , فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفَتِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ يَا
رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنٌ , فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي }* .
" وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة""
" أنا عند ظن عبدي بي " هذا فيه إحسان الظن بالله تبارك وتعالى ، وأن يكون العبد حسن الظن بربه ، وحسن الظن لا يكون إلا مع إحسان العمل وإلا كان غروراً . يقول ابن القيم ـ"مبيناً تلازم حسن الظن مع صلاح العمل تمام الملازمة ـ :"حسن الظن إنما يكون مع الإحسان ، فإنَّ المحسن حسن
الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته . وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإنَّ وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه"(1)
واعلم أيها الحبيب أنه لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن بالله ، فإن مَن استحضر عظمة ربه صغر في عينه كل شيء . وتذكر قضية الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، ثم سأل راهباً : هل له توبة؟ فقال : لا ، فكمل به المائة ، ثم سأل عارفاً ، فقال له : ومَن يحول بينك وبينها؟ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصي فيها ، واذهب إلى قوم يعبدون الله في مكان ، فذهب ، فأدركه الموت في الطريق ، فلما أحسّ بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها ، ثم مات ، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فقال لهم الحق تعالى : قيسوا من القرية التي خرج منها ، إلى القرية التي قصدها ، فإلى أيهما هو أقرب هو منها؟ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر ، فأخذته ملائكة الرحمة .
وأخرج مسلم وابن مردويه عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض ، فجعل منها في الأرض رحمة ، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة » .
------------------
( 1 ) الجواب الكافي " ص13 ـ 14 "
فلا ينبغي للإنسان أن يكون جازماً بقبول عمله؛ بل يكون راجياً؛ ولكنه يرجو رجاءً يصل به إلى حسن الظن بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى : { أولئك يرجون رحمة الله }؛ لأنهم لا يغترون بأعمالهم؛ ولا يُدْلُون بها على الله؛ وإنما يفعلونها وهم راجون رحمة الله.
وأنى أرى أننى مهما أطلت وأفضت وأسهبت فى هذا الموضوع المبارك فلن أوفيه حقه من حيث جمع الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء غير أنى أحببت أن أنهى هذا الموضوع المبارك بقول الله تبارك وتعالى :{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }( 53الزمر )
قال علي بن أبي طالب وابن مسعود : هذه أرجى آية في القرآن ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية واختلف في سببها فقيل : في وحشي قاتل حمزة ، لما أراد أن يسلم وخاف أن لا يغفر له ما وقع فيه من قتل حمزة ، وقيل : نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا ، ففتنوا فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم ، وهذا قول عمر بن الخطاب : وقد كتب بها إلى هشام بن العاصي ، لما جرى له ذلك وقيل : نزلت في قوم من أهل الجاهلية ، قالوا : ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زينا ، وقتلنا النفوس فنزلت الآية فيهم ، ومعناها مع ذلك على العموم في جميع الناس إلى يوم القيامة . (1)
انى لأرجو من الله العلى القدير أن أكون قد وفقت فى تبسيط هذه الرسالة وأن ينفع بها كل مسلم موحد فى مشارق الأرض ومغاربها
ولا تنسونا من دعائكم ...
أخوكم فى الله
الناغى بن عبد الحميد العريان
---------------------
(1) تفسير الإمام الغرناطى 1/ 1853