دلالات ويكأن في تقرير الجواب
"ويكأنه" فقد اختلف فيها البصريون والكوفيون أهي كلمة واحدة أم كلمتان؟ فقال سيبويه: سألت الخليل عن قوله تعالى: (ويكأنه لا يفلح الكافرون) وعن قوله: (ويكأن الله) فزعم أنها: "وي" مفصولة من "كأن". والمعنى على أن القوم انتبهوا، فتكلموا على قدر علمهم، أو نبهوا، فقيل لهم: أما يشبه أن هذا عندكم هكذا؟ وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 243): "ويكأن..." في كلام العرب تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله؟ وأنشدني: "ويكأن من يكن..." البيت. وأخبرني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك، ويلك؟ فقال: "ويكأنه وراء البيت، معناه أما ترينه وراء البيت... إلى آخر ما نقله عنه المؤلف. قلت: والذي قاله الخليل وسيبويه من حيث اللفظ أقرب إلى الصواب، لأن الكلمة مركبة من ثلاثة أشياء: وي، والكاف وأن. والذي قال الفراء من جهة المعنى حسن واضح.
وقال بعض نحويي الكوفة: "ويكأنّ" في كلام العرب: تقرير، كقول الرجل: أما ترى إلى صُنع الله وإحسانه، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابننا؟ فقال: ويكأنه وراء البيت. معناه: أما ترينه وراء البيت؟ قال: وقد يذهب بها بعض النحويين إلى أنها كلمتان، يريد: ويك أنه، كأنه أراد: ويلك، فحذف اللام، فتجعل "أن" مفتوحة بفعل مضمر، كأنه قال: ويلك اعلم أنه وراء البيت، فأضمر "اعلم".
قال: ولم نجد العرب تعمل الظن مضمرا، ولا العلم وأشباهه في "أن" ، وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين، أو في آخر الكلمة، فلما أضمر جرى مجرى المتأخر; ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن يقول: يا هذا أنك قائم، ويا هذا أن قمت، يريد: علمت، أو أعلم، أو ظننت، أو أظنّ، وأما حذف اللام من قولك: ويلك حتى تصير: ويك، فقد تقوله:العرب، لكثرتها في الكلام، قال عنترة:
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَها... قَوْلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ (1)
قال: وقال آخرون: إن معنى قوله وَيْكَأَنَّ ): "وي" منفصلة من كأنّ، كقولك للرجل: وَيْ أما ترى ما بين يديك؟ فقال: "وي" ثم استأنف، كأن الله يبسط الرزق، وهي تعجب، وكأنّ في معنى الظنّ والعلم، فهذا وجه يستقيم. قال: ولم تكتبها العرب منفصلة، ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة، وقد يجوز أن تكون كَثُر بها الكلام، فوصلت بما ليست منه . وقال آخر منهم: إن "ويْ": تنبيه، وكأنّ حرفٌ آخر غيره، بمعنى: لعل الأمر كذا، وأظنّ الأمر كذا، لأن كأنّ بمنزلة أظنّ وأحسب وأعلم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة:
القول الذي ذكرنا عن قَتادة، من أن معناه: ألم تر، ألم تعلم، للشاهد الذي ذكرنا فيه من قول الشاعر، والرواية عن العرب; وأن "ويكأنّ" في خطّ المصحف حرف واحد. ومتى وجه ذلك إلى غير التأويل الذي ذكرنا عن قَتادة، فإنه يصير حرفين، وذلك أنه إن وجه إلى قول من تأوّله بمعنى: ويلك اعلم أن الله؛ وجب أن يفصل "ويك" من "أن" ، وذلك خلاف خط جميع المصاحف، مع فساده في العربية، لما ذكرنا. وإن وجه إلى قول من يقول: "وي" بمعنى التنبيه، ثم استأنف الكلام بكأن، وجب أن يفصل "وي" من "كأن" ، وذلك أيضا خلاف خطوط المصاحف كلها (1) .
فإذا كان ذلك حرفا واحدا، فالصواب من التأويل: ما قاله قَتادة، وإذ كان ذلك هو الصواب، فتأويل الكلام: وأصبح الذين تمنوا مكان قارون وموضعه من الدنيا بالأمس، يقولون لما عاينوا ما أحلّ الله به من نقمته: ألم تريا هذا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، فيوسع عليه، لا لفضل منزلته عنده، ولا لكرامته عليه، كما كان بسط من ذلك لقارون، لا لفضله ولا لكرامته عليه( وَيَقْدِرُ ) يقول: ويضيق على من يشاء من خلقه ذلك، ويقتر عليه، لا لهوانه، ولا لسخطه عمله.
(1) البيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي، من معلقته (مختار الشعر الجاهلي بشعر مصطفى السقا ص 379) قال شارحه: يريد أن تعويل أصحابه عليه، والتجاءهم إليه شفى نفسه، ونفى غمه. اه. ووي: كلمة يقولها المتعجب من شيء، وهي بدائية ثنائية الوضع. لأنها من أسماء الأصوات ثم صارت اسم فعل وقد تدخلها كاف الخطاب، وقد يزيدون عليها لامًا، فتصير ويل أو الحاء، فتصير ويح، وتستعمل الأولى في الإِنذار بالشر، والثانية في الإِشعار بالرحمة، فيقال ويلك، وويحك، وويسك وويبك: مثل ويلك. وروايته البيت هنا كروايته في معاني القرآن للفراء (ص 243) فقد نقله في كلامه الذي نقله المؤلف، وذكر فيه هذا الشاهد، وفي مختار الشعر قيل: الفوارس: في موضع: قول الفوارس وهما بمعنى.
الامام الطبري