﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾[ الملك:1ـ2].
إن الابتلاء سنة ثابتة في حياة البشر لا يستطيعون الخروج منها، وللابتلاء صور ومظاهر وقوانين وسنن تفصيلية لسنة الابتلاء الأصلية والأساسية ومن تلك السنن :
سنة التداول: بمعنى أن الله تعالى يداول أحوال الناس من شدة إلى رخاء ومن رخاء إلى شدة ، ومن نصر إلى هزيمة ، ومن هزيمة إلى نصر، ومن يسر إلى عسر، ومن عسر إلى يسر إلى غير ذلك من مظاهر تقلبات الأحوال وتغيير المواقف وتداول المواقع، حتى تظهر بذلك مواقف الناس، وتنكشف بواطن ما في صدورهم وفي هذه السنة يقول الله عز وجل ﴿ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾[ آل عمران: 140].
وإن كانت هذه الآية الكريمة نزلت في أعقاب غزوة أحد، ليتبين للمؤمنين سنة الله عز وجل في النصر والهزيمة، وإن كانت العاقبة والمحصلة النهائية للمؤمنين ، والنصر موعود لهم، ولكن هناك حكمة تقتضي أن يذوق المؤمنون طعم الهزيمة.
ومداولة الأحوال لا يقتصر على تعاقب النصر والهزيمة فإن اختلاف الأحوال لا يقتصر على تعاقب النصر والهزيمة فإن اختلاف الأحوال والظروف التي يمر بها الإنسان تدخل في إطار هذه السنة، ولهذا قال بعض المفسرين أن معنى نداولها بين الناس: من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر إلى غير ذلك.
ثم إن وعد الله للمؤمنين بالنصر لا يعني أن الأمر سيجري وفق أهوائهم وأن الثمرة ستأتي على ما يشتهون، كلا. بل إن حكمة الله تقتضي بأن تتربى النفوس المؤمنة على تحمل نتائج الأخطاء، وأن تتعلم بأن المعصية تبعدهم عن رحمة الله وتوفيقه وعونه، فليس من الصدفة أو المجازفة ما يحصل في حياة البشر من تغييرات في أحوالهم، فإن وراء ذلك إرادة ومشيئة إلهية ذات حكمة بالغة على الإنسان أن يعرفها ويفقهها.
ومن سنن الابتلاء سنة التدافع بين الحق والباطل فإن الله أراد لهذه الحياة أن تكون مسرحاً للصراع بين أنصار الحق والباطل، بين قوى الخير وقوى الشر، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[الأنبياء:35], وقال: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾[الفرقان: 20]. فالتدافع بين أهل الحق وأهل الباطل سنة حتمية لا بد منها، فلا يتصور أن يعيش الحق والباطل في سلم دون صراع ومن دون غلبة أحدهما على الآخر، إلا لعلة كضعف أصحابهما أو جهلهما بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أو ضعف تأثير هذه المعاني فيهم، ولقد ضرب الله مثلاً لهذه الحقيقة حقيقة الحق الثابت والباطل الزاهق في قوله سبحانه: ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ﴾[ الرعد:17].
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه زبد أو خبث، ما يلبث أن ينتهي ويذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق هادئاً ساكناً، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء الزلال والمعدن الصافي ينفع الناس (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) لقد مضت سنة الله في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله كما قال تعالى ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾[ الشورى: من الآية24] غير أن للنصر عوامل وأسباباً، وانتصار الله للحق وأهله لا يأتي إلا بجهد وتعب، وقد يصيب المؤمنين كثير من الأذى. والنصر إنما يتحقق في واقع الناس إذا هيأ الله في أنفسهم عوامل النصر التي أرشد إليها الإسلام وأمر بها الله ورسوله وأبعدوا عن أنفسهم عوامل الفشل ومعوقات النصر.
ومن أهم عوامل النصر: الإيمان، فقد وعد الله أهل الإيمان بالنصر والتأييد كما قال﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[ الروم: 47].
وقال : ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾[غافر:51].
وهذا وعد غير مكذوب.. ولا ينبغي أن يتطرق إلينا الشك بوعد الله ونحن نرى واقع المسلمين المؤلم غير منصورين عليهم، ذلك أنهم لم يحققوا الإيمان المطلوب منهم وما يستلزمه من صفات وأفعال غير متحققة فيهم، وبالتالي لا ينطبق عليهم الشرط ولا يستحقون نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وما أحرى المسلمين اليوم وهم يمرون بظروف صعبة وحرجة أن يراجعوا أنفسهم ويعرضوا أحولهم وأفعالهم وما هم عليه على كتاب الله وسنة رسوله ليعرفوا الخلل الذي هم فيه، والنقص الموجود فيهم، فيقوموا بالتصحيح والتقويم وتدارك ما فاتهم وتحقيق معاني الإيمان في نفوسهم حتى يستحقوا الدخول في مضمون قول الله تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[ الروم: 47].
ـ من عوامل النصر تقوى الله تعالى كما قال تعالى مخبراً عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال لقومه المستضعفين المضطهدين من قبل فرعون وجنده: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[ الأعراف:128], وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾[ آل عمران: 120].
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أوصى سعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق وفتوحات فارس قال: فإني آمرك ومن معك من أجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد أحتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم قد سلط عليهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألون النصر على عدوكم اسأل الله ذلك لنا ولكم.
ومن عوامل نصر الله لعباده كونهم ينصرون دين الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾[ محمد:7] وقال ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾[ الحج: 40]
والمراد نصرة دين الله وشريعته، ونصرة حزبه وأوليائه ولا شك أن انضمام جهود المؤمنين بعضهم إلى بعض لإقامة شرع الله وإعلاء كلمته، بالتعاون والتناصر فيما بينهم على هذا المقصد العظيم، تتحقق منهم النصرة لدين الله وبهذا يتحقق فيهم ما شرط الله عليهم لينالوا ما وعدهم الله به من نصرة، وكلما كانوا أكثر تعاوناً وولاءً وأصدق جهاداً في سبيل نصرة دين الله كان نصر الله أعظم وأكبر وأسرع إليهم مما يتصورون ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾[ المائدة:55ـ56].
أما بعد ..
فإن وحدة الأمة واعتصامها بدينها وابتعادها عن عوامل الفرقة والاختلاف، والتنازع والصراع من أهم أسباب قوتها وانتصارها على أعدائها، وهذا ما أمر الله به عباده وأوصاهم به وحذرهم من الفرقة والتنازع غاية التحذير فقال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ﴾[ آل عمران: 103] , وقال: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾[ الأنفال: 46] , وقال: ﴿ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾[ الروم: 31ـ32].
وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[ الأنعام:159].
وقال: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾[ الشورى:13].
وما استطاع الأعداء ولن يستطيعوا أن يتسلطوا علينا إلا حين نسقط في هذه الفتن فتن الاختلاف والتنازع والخصام والاقتتال والتدابر والتقاطع، لقد اختلفنا حول كل شيء فالدين الذي أكرمنا الله به وأعزنا وشرفنا بأن نكون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم اختلفنا حوله فهناك من يريد هدمه وإزالته والإجهاز عليه من أبناء جلدتنا، ولم يعد الأمر سراً بل هناك من يطالب جهاراً نهاراً بذلك وهذه هي الحالقة والكارثة.
لقد اختلفنا في المفاهيم والتصورات وفي الآداب والأخلاق وفي السياسات والمنطلقات والغايات.
والأعداء المتربصون بالأمة يغذون هذه الاختلافات، ثم يتحينون الفرصة للانقضاض علينا، ولقد أصبحت هذه السياسة من أقوى وأشد الأسلحة فتكاً بالأمة يستخدمها الأعداء في حربنا، وانظروا إلى ما يجري في العراق على سبيل المثال، وانظروا إلى ما يجري في السودان وكيف يبحث الأعداء عن مبررات للتدخل والسيطرة والتحكم في مقدرات الأمة ونهب ثرواتها. وما كان لهم أن يحققوا شيئاً من ذلك ولن يستطيعوا ما كانت الأمة قوية متماسكة متعاونة موحدة في أهدافها ومنطلقاتها معتصمة بكتاب الله متبعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن أخشى ما أخشاه والعدو متربص بنا على أن يستغل الأحداث الجارية في بلادنا وتغذية الفرقة وإيقاد الفتنة لتضعف بذلك الأمة وتكون مهيأة للقبول بالأجنبي ولديها القابلية للسقوط في هذا الفخ، فعلى عقلاء الأمة ومسئوليها أن يكونوا مدركين للأمور على حقيقتها وأن يتعاملوا مع الأحداث تعاملاً واعياً مسئولاً، بعيداً عن الرعونة والطيش والاستخفاف.
نسأل الله تعالى أن يدفع عن بلادنا وسائر بلاد المسلمين مضلات الفتن، وأن يعصمنا بالإسلام قائمين وقاعدين، وأن لا يشمت بنا الأعداء الحاقدين.