لام كي ولام الجحود
ابن القيم الجوزية
لام كي والجحود حرفان ماضيان بإضمار أن إلا أن لام كي هي لام العلة فلا يقع فيها إلا فعل يكون علة لما بعدها فإن كان ذلك الفعل منفيا لم يخرجها عن أن تكون لام كي كما ذهب إليه الصيمري لأن معنى العلة فيها باق وإنما الفرق بين لام الجحود ولام كي وذلك من ستة أوجه
أحدها أن لام الجحود يكون قبلها كون منفي بشرط المضي إما ما كان أو لم يكن لا مستقبلا فلا تقول ما أكون لأزورك وتكون زمانية ناقصة لا تامة ولا يقع بعد اسمها ظرف ولا مجرور لا تقول ما كان زيد عندك ليذهب ولا أمس ليخرج فهذه أربعة فروق والذي يكشف لك قناع المعنى ويهجم بك على الغرض أن كان الزمانية عبارة عن زمان ماض فلا يكون علة لحادث ولا يتعدى إلى المفعول من أجله ولا إلى الحال وظروف المكان وفي تعديها إلى ظرف الزمان نظر وهذا الذي منعها أن تقع قبلها لام العلة أو يقع بعدها المجرور أو الظرف
وأما الفرق الخامس بين اللامين فهو أن الفعل بعد لام الجحود لا يكون فاعله إلا عائدا على اسم كان لأن الفعل بعدها في موضع الخبر فلا تقول ما كان زيد ليذهب عمرو كما تقول يا زيد ليذهب عمرو أو لتذهب أنت ولكن تقول ما كان ليذهب وما كنت لأفعل
والفرق السادس جواز إظهار أن بعد لام كي ولا يجوز إظهارها بعد لام الجحود لأنها جرت في كلامهم نفيا للفعل المستقبل بالسين أو سوف فصارت لام الجحود بإزائها فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدها
وفي هذه النكتة مطلع على فوائد من كتاب الله ومرقاة إلى تدبره كقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الأنفال 33 فجاء بلام الجحود حيث كان نفيا لأمر متوقع وسبب مخوف في المستقبل ثم قال وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي وقوع العذاب بالمستغفرين على العموم في الأقوال لا يخص مضيا من استقبال ومثله ما كان ربك ليهلك القرى هود 117 ثم قال وما كنا مهلكي القرى القصص 59 فلاحظ هذه الآية من مطلع الأخرى تجدها كذلك.
لام العاقبة أو لام الصيرورة
وأما لام العاقبة ويسمونها لام الصيرورة في نحو ليكون لهم عدوا القصص 8 فهي في الحقيقة لام كي ولكنها تتعلق بالخبر لقصد المخبر عنه وإرادته ولكنها تعلقت بإرادة فاعل الفعل على الحقيقة وهو الله سبحانه وتعالى أي فعل الله تعالى ذلك ليكون كذا وكذا
وكذلك قولهم أعتق ليموت لم يعتق لقصد الموت ولم تتعلق اللام بالفعل وإنما المعنى قدر الله أنه يعتق ليموت فهي متعلقة بالمقدور وفعل الله
ونظيره إني أنسى لا سن ومن رواه أنسي بالتشديد فقد كشف قناع المعنى وسمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول يستحيل دخول لام العاقبة في فعل الله فإنها حيث وردت في الكلام فهي لجهل الفاعل لعاقبة فعله كالتقاط آل فرعون لموسى فإنهم لم يعلموا عاقبته أو لعجز الفاعل عن دفع العاقبة نحو لدوا للموت وابنوا للخراب فأما في فعل من لا يعزب عنه مثقال ذرة ومن هو على كل شيء قدير فلا يكون قط إلا لام كي وهي لام التعليل ولمثل هذه الفوائد التي لا تكاد توجد في الكتب يحتاج إلى مجالسة الشيوخ والعلماء فائدة نفي الماضي ونفي المستقبل
كما أن لن لنفي المستقبل كان الأصل أن تكون لا لنفي الماضي وقد استعملت فيه نحو فلا اقتحم العقبة البلد 11 ونحو وأي عبد لك لا ألما ولكن عدلوا في الأكثر إلى نفي الماضي ب لم لوجوه
منها أنهم خصوا المستقبل بلن فأرادوا أن يخصوا الماضي بحرف ولا لا تخص ماضيا من مستقبل ولا فعلا من اسم فخصوا نفي الماضي ب لم
ومنها أن لا يتوهم انفصالها مما بعدها إذ قد تكون نافية لما قبلها ويكون ما بعدها في حكم الوجوب مثل لا أقسم حتى لقد قيل في قول عمر لا نقضي ما تجانفنا لإثم إن لا رد لما قبلها ونقضي واجب لا منفي وقال بعض الناس في قوله لا تراى ناراهما // صحيح // أن لا رد وما بعدها واجب وهذا خطأ في الأثرين وتلبيس لا يجوز حمل النصوص عليه وكذلك لا أقسم بيوم القيامة القيامة 1 أيضا بل القول فيها أحد قولين إما أن يقال هي للقسم وهو ضعيف وإما أن يقال أقحمت أول القسم إيذانا بنفي القسم عليه وتوكيدا لنفيه كقول الصديق لاها الله تعمد إلى أسد من أسد الله الحديث
ومما يدل على حرصهم على إيصال حرف النفي بما بعده قطعا لهذا التوهم إنما قلبوا لفظ الفعل الماضي بعد لم إلى لفظ المضارع حرصا على الإتصال وصرفا للوهم عن ملاحظة الإنفصال
فإن قيل وأي شيء في لفظ المضارع مما يؤكد هذا المعنى أو ليسا سواء هو والماضي قلبا لا سواء فاعلم أن الأفعال مضارعة للحروف من حيث كانت عوامل في الأسماء ك هي ومن هناك استحقت البناء وحق العامل أن لا يكون مهيئا لدخول عامل آخر عليه قطعا للتسلسل الباطن والفعل الماضي بهذه الصورة وهو على أصله من البناء ومضارعة الحروف العوامل في الأسماء فليس يذهب الوهم عند النطق به إلا إلى انقطاعه عما قبله إلا بدليل يربطه وقرينة تجمعه إليه ولا يكون في موضع الحال البتة إلا مصاحبا لقيد ليجعل هذا الفعل في موضع الحال
فإن قلت فقد يكون في موضع الصفتين النكرة نحو مررت برجل ذهب قبل افتقار النكرة إلى الوصف وفرط احتياجها إلى التخصيص تكملة لفائدة الخبر هو الرابط بين الفعل وبينها بخلاف الحال فإنها تجيء بعد استغناء الكلام وتمامه
وأما كونه خبرا للمبتدأ فلشدة احتياج المبتدأ إلى خبره جاز ذلك حتى أنك إذا أدخلت أن على المبتدأ بطل أن يكون الماضي في موضع الخبر إذ قد كان في خبرها اللام لما في الكلام من معنى الإبتداء والإستئناف لما بعدها فاجتمع ذلك مع صيغة الماضي وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبرا لما قبلها وليس ذلك في المضارع وليس المضارع كالماضي لأن مضارعته للإسم هيأته لدخول العوامل عليه والتصرف بوجوه الإعراب كالإسم وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام وصيرته كالأسماء المعمول فيها فوقع موقع الحال والوصف وموقع خبر المبتدأ وإن لم يقطعه دخول اللام عن أن يكون خبرا في باب إن كما قطع الماضي من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام كما تقدم
فإن قيل فما وجه مضارعة الفعل المستقبل والحال قبل دخول الزوائد ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء كالمتكلم والمخاطب فما تضمن معنى الإسم أعرب كما بني من الأسماء ما تضمن معنى الحرف ومع هذا فإن الأصل في دخول الزوائد شبه الأسماء وصلح فيها من الوجوه ما لا يصلح في الماضي فائدة بديعة لام الأمر ولا الناهية
لام الأمر ولا في النهي وحروف المجازاة داخلة على المستقبل فحقها أن لا يقع بعدها لفظ الماضي ثم لم يوجد ذلك إلا لحكمة أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك كي لا يلتبس بالنفس لعدم الجزم
ولكن إذا كانت لا في معنى الدعاء جاز وقوع الفعل بعدها بلفظ الماضي ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوه
منها أنهم أرادوا أن يجمعوا التفاؤل مع الدعاء في لفظ واحد فجاءوا بلفظ الفعل الحاصل في معرض الدعاء تفاؤلا بالإجابة فقالوا لا خيبك الله وأيضا فالداعي قد تضمن دعاؤه القصد إلى إعلام السامع وإخبار المخاطب بأنه داع فجاءوا بلفظ الخبر إشعارا بما تضمنه من معنى الإخبار نحو أعزك الله وأكرمك ولا رحم فلانا جمعت بين الدعاء والإخبار فإنك داع
ويوضح ذلك أنك لا تقول هذا في حال مناجاتك الله تعالى ودعائك لنفسك لا تقول رحمتني رب ورزقتني وغفرت لي كما تقول للمخاطب رحمك الله ورزقك وغفر لك إذ لا أحد في حال مناجاتك يقصد إخباره وإعلامه وإنما أنت داع وسائل محض
فإن قيل وكيف لم يخافوا اللبس كما خافوه في النهي
قلنا للدعاء هيبة ترفع الإلتباس وذكر الله مع الفعل ليس بمنزلة ذكر الناس فتأمله فإنه بديع في النظر والقياس فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر وهي في معنى الأمر والنهي منها قول عمر صلى رجل في كذا وكذا من اللباس وقولهم أنجز حر ما وعد وقولهم اتقى الله امرؤ وهو كثير فجاء بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته وأنه مما ينبغي أن يكون واقعا ولا بد فلا يطلب من المخاطب إيجاده بل يخبر عنه به ليحققه خبرا صرفا كالإخبار عن سائر الموجودات
وفيه طريقة أخرى وهي أفقه معنى من هذه وهو أن هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة وكأنهم يريدون بقولهم أنجز حر ما وعد أي ثبت ذلك في المروءة واستقر في الفطرة وقول عمر صلى رجل في إزار ورداء الحديث // رواه البخاري // أي هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقق من الشريعة فالإشارة إلى هذه المعاني حسنت صرفه إلى صورة الخبر وإن كان أمرا زائدا لا يكاد يجيء الإسم بعده إلا نكرة لعموم هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال أسماء معرفة تمخض فيها معنى الخبر وزال معنى الأمر فقلت اتقى الله زيد وأنجز عمر وما وعد فصار خبرا لا أمرا وهذا هو موضع المسألة المشهورة وهي مجيء الخبر بمعنى الأمر
مجيء الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله والوالدات يرضعن والمطلقات يتربصن ونظائره فمن سلك المسلك الأول جعله خبرا بمعنى الأمر ومن سلك المسلك الثاني قال بل هو خبر حقيقة غير مصروف من جهة الخبرية ولكن هو خبر عن حكم الله وشرعه ودينه ليس خبرا عن الواقع ليلزم ما ذكروه من الإشكال وهو احتمال عدم وقوع مخبره فإن هذا إنما يلزم من الخبر عن الواقع
وأما الخبر عن الحكم والشرع فهو حق مطابق لمخبره لا يقع خلافه أصلا وضد هذا مجيء الأمر بمعنى الخبر نحو قوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت // رواه البخاري // وأبو داود وابن ماجة // فإن هذا صورته صورة الأمر ومعناه معنى الخبر المحض أي من كان لا يستحيي فإنه يصنع ما يشتهي ولكنه صرف عن جهة الخبرية إلى صورة الأمر لفائدة بديعة وهي أن العبد له من حيائه آمر يأمره بالحسن وزاجر يزجره عن القبيح ومن لم يكن من نفسه هذا الأمر لم تنفعه الأوامر وهذا هو واعظ الله في قلب العبد المؤمن الذي أشار إليه النبي ولا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن فمن لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ
فإذا فقد هذا الأمر الناهي بفقد الحياء فهو مطيع لا محالة لداعي الغي والشهوة طاعة لا انفكاك له منها فنزل منزلة المأمور وكأنه يقول إذا لم تأتمر لأمر الحياء فأنت مؤتمر لأمر الغي والسفه وأنت مطيعه لا محالة وصانع ما شئت لا محالة فأتى بصيغة الأمر تنبيها على هذا المعنى ولو أنه عدل عنها إلى صيغة الخبر المحض فقيل إذا لم تستح صنعت ما شئت لم يفهم منها هذا المعنى اللطيف فتأمله وإياك والوقوف مع كثافة الذهن وغلظ الطباع فإنها تدعوك إلى إنكار هذه اللطائف وأمثالها فلا تأتمر لها وقوع المستقبل بلفظ الأمر
أما وقوع الفعل المستقبل بلفظ الأمر في باب الشرط نحو قم أكرمك أي إن تقم أكرمك فقيل حكمته أن صيغة الأمر تدل على الإستقبال فعدلوا إليها إيثارا للخفة وليست هذه العلة مطردة فإن الأفعال المختصة بالمستقبل لا يحسن إقامة لفظ الأمر مقام أكثرها نحو سيقوم وسوف يقوم ولن تقوم وأريد أن يقوم
ولكن أحسن ما ذكروه أن يقال في قوله قم أكرمك فائدتان ومطلوبان أحدهما جعل القياس سببا للإكرام ومقتضيا له اقتضاء الأسباب لمسبباتها والثاني كونه مطلوبا للآمر مرادا له وهذه الفائدة لا يدل عليها الفعل المستقبل فعدل عنه إلى لفظ الأمر تحقيقا له وهذا واضح جدا وقوع المستقبل بلفظ الماضي
وأما وقوع المستقبل بعد حرف الجزاء بلفظ الماضي فقد علل بنحو هذه العلة وأن الإرادة لا تدل على الإستقبال فعدلوا إلى الماضي لأنه أخف وهي أيضا غير مطردة ولا مستقلة ولو لم ينقض عليهم إلا بسائر الأدوات التي لا يكون الفعل بعدها إلا مستقبلا ومع ذلك لا يقع بلفظ الماضي
وأحسن مما ذكروه أن يقال عدل عن المستقبل هنا إلى صيغة الماضي إشارة إلى نكتة بديعة وهي تنزيل الشرط بالنسبة إلى الجزاء منزلة الفعل الماضي فإن الشرط لا يكون سابقا للجزاء متقدما عليه فهو ماض بالإضافة إليه
ألا ترى أنك إذا قلت إن اتقيت الله أدخلك جنته فلا يكون إلا سابقا على دخول الجنة فهو ماض بالإضافة إلى الجزاء فأتوا بلفظ الماضي تأكيدا للجزاء وتحقيقا لأن الثاني لا يقع إلا بعد تحقق الأول ودخوله في الوجود وأنه لا يكتفي فيه بمجرد العزم وتوطين النفس عليه الذي في المستقبل بل لا سبيل إلى نيل الجزاء إلا بتقدم الشرط عليه وسبقه له فأتى الماضي لهذه النكتة البديعة مع أمنهم اللبس بتحصين أداة الشرط لمعنى الإستقبال فيهما يبقى أن يقال فهذا تقرير حسن في فعل الشرط فما الذي حسن وقوع الجزاء المستقبل من كل وجه بلفظ الماضي
إذا قلت إن قمت قمت قيل هذا سؤال حسن وجوابه أنهم أبرموا تلك الفائدة في فعل الشرط قصدوا معها تحسين اللفظ ومشاكلة أوله لآخره وازدواجه واعتدال أجزائه فأتوا بالجزاء ماضيا لهذه الحكمة فإن لفظتي الشرط والجزاء كالأخوين الشقيقين وأنت تراهم يغيرون اللفظ عن جهته وما يستحقه لأجل المعادلة والمشاكلة فيقولون أتيته بالغدايا والعشايا ومأزورات غير مأجورات ونظائره ألا ترى كيف حسن إن تزرني أزرك وإن زرتني زرتك وقبح إن تزرني زرتك وتوسط إن زرتني أزرك فحسن الأولان للمشاكلة وقبح الثالث للمنافرة حتى منع منه أكثر النحاة وأجاز جماعة منهم أبو عبدالله بن مالك وغيره وهو الصواب لكثرة شواهده وصحة قياسه على الصورة الواقعة وادعى أنه أولى منها قال لأن المستقبل في هذا الباب هو الأصل والماضي فرع عليه فإذا أجزتم أن يكون الماضي أولا والمستقبل بعده فجواز الإتيان بالمستقبل الذي هو الأصل أولا والماضي بعده أولى
والتقرير الذي قدمناه من كون الشرط سابقا على الجزاء فهو ماض بالنسبة إليه يدل على ترجيح قولهم وإن زرتني أزرك أولى بالجواز من إن تزرني زرتك والتقرير الذي قرره من جواز المستقبل هو الأصل في هذا الباب والماضي دخيل عليه فإذا قدم الأصل كان أولى بالجواز ترجح ما ذكره فالترجيحان حق ولا فرق بين الصورتين وكلاهما جائز هذا هو الإنصاف في المسألة والله أعلم
ولكن هنا دقيقة تشير إلى ترجيح قول الجماعة وهي أن الفعل الواقع بعد حرف الشرط تارة يكون القصد إليه والإعتماد عليه فيكون هو مطلوب المعلق وجعل الجزاء باعثا ووسيلة إلى تحصيله وفي هذا الموضع يتأكد أو يتعين الإتيان فيه بلفظ المضارع الدال على أن المقصود منه أن يأتي به فيوقعه وظهور القصد المعنوي إليه أوجب تأثير العمل اللفظي فيه ليطابق المعنى اللفظ فيجتمع التأثيران اللفظي والمعنوي
والذي يدل على هذا أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي إلى المستقبل في الشرط لهذا المعنى حتى يظهر تأثير الشرط فيه واقتضاؤه له وإذا كان الكلام معتمدا على الجزاء والقصد إليه والشرط جعل تابعا ووسيلة إليه كان الإتيان فيه بلفظ الماضي حسنا أو أحسن من المستقبل فزن بهذه القاعدة ما يرد عليك من هذا الباب
فمنه قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الفتح 27 فانظر كيف جعل فعل الشرط ماضيا والجزاء مستقبلا لأن القصد كان إلى دخولهم المسجد الحرام وعنايتهم كلها مصروفة وهممهم معلقة به دون وقوع الأفعال بمشيئة الله تعالى فإنهم لم يكونوا يشكون في ذلك ولا يرتابون وأكد هذا المعنى تقديم الجزاء على الشرط وهو إما نفس الجزاء على أصح القولين دليلا كما تقدم تقريره وإما دال على الجزاء وهو محذوف مقدر تأخيره وعلى القولين فتقدم الجزاء أو تقديم ما يدل عليه اعتناء بأمره وتجريدا للقصد إليه
ويدل عليه أيضا تأكيده باللام المؤذنة بالقسم المضمر كأنه قيل والله لتدخلن المسجد الحرام فهذا كله يدلك على أنه هو المقصود المعنى به ومثل هذا قوله تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم إبراهيم 7 ونحوه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك الإسراء 86 ومثله لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله الإسراء 88 وهذا أصل غير منخرم وفيه نكتة حسنة وهي اعتماد الكلام في هذا النوع على القسم كما رأيت فحسن الإتيان بلفظ الماضي إذ القسم أولى به لتحققه ولا يكون الإلغاء مستشنعا فيه لأنه مبني
ولما كان الفعل بعد حرف الجزاء يقع بلفظ الماضي لما ذكرناه من الفائدة حسن وقوع المستقبل المنفي بلم بعدها نحو وإن لم تنتهوا وهما جازمتان ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان من جنس واحد ولكن لما كان الفعل بعدها ماضيا في المعنى وكانت متصلة به حتى كأن صيغته صيغة الماضي لقوة الدلالة عليه بلم جاز وقوعه بعد إن وكان العمل والجزم لحرف لم لأنها أقرب إلى الفعل وألصق به وكان المعنى في الإستقبال لحرف أن لأنها أولى وأسبق فكان اعتبارها في المعنى واعتبار لم في الجزم
ولا ينكر إلغاء أن هنا لأن ما بعدها في حكم صيغة الفعل الماضي كما لا ينكر إلغاؤها قبله وقد أجازوا في إن النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوا في إن التي للشرط كما قال تعالى ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد فاطر 41 ولو جعلت مكان إن ههنا غيرها من حروف النفي لم يحسن فيه مثل هذا لأن الشرطية أصل للنافية كأن المجتهد في النفي إذا أراد توكيده يقول إن كان كذا وكذا فعلي كذا أو فأنا كذا ثم كثر هذا في كلامهم حتى حذف الجواب وفهم القصد فدخلت إن في باب النفي والأصل ما ذكرناه والله أعلم .