بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة الأولى: تعريف القياس الفقهي
القياس الفقهي عند القائلين به هو: إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما.
المسألة الثانية: سبب إبطال أهل الظاهر للقياس الفقهي.
أهل الظاهر قطعيون في مسائل الشرع الأصولية والفقهية والعقدية وغير ذلك، فقد رفضوا كل طرق الإثبات
القائمة على الظن، والتزموا طرق الإثبات القطعية.فلما نظروا في النصوص وأدلة أهل القياس في إثباته: لم يجدوا القطعية الدالة على وجوب العمل به في أحكام
الشريعة، أو إباحة ذلك، ووجدوا دلالة النصوص المذكورة لا تمس القياس الفقهي ألبتة،فلذلك رفضوه.ويحتج أهل الظاهرعلى أهل
القياس الفقهي: بأن القياس لم يأت بالشرع، ولا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فكلما نسب إليه لا يصح أنه قياس وفق قواعد القياس الفقهي وضوابطه، فكيف يكون
حجة في إثبات القياس ؟وكذلك فإن الشرع لم يأت بشروط القياس، ولا بين لنا كيف نقيس وعلى ماذا نقيس، ولا بين لنا مسالك العلة ولا
كيفية الوقوف على العلة التي يجب أن يعلق بها الحكم، وإنما كان هذا كله ثبت بالظنون وبأقوال الرجال، وهذا لا يجوز الأخذ به حتى يعلم الآخذ من أين أخذوه، فلا صحابي
بينه، ولا تابعي، ولا تابع تابعي، وإنما جاء بيانه من أهل الكلام كأبي الحسين البصري، وعبد الجبار ونحوهما من المعتزلة، أو غيرهما من الأشعرية، كالجويني،
والغزالي، والرازي، والآمدي، وهؤلاء لم يأمر الله تعالى باتباعهم ؛ لأن الله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والسنة، فهم شهدوا على أنفسهم أنهم لا
يعرفون صحيح الحديث وضعيفه ولا رجاله، إما نصاً بأقوالهم، وإما فعلاً كاستدلالهم بما ساقط عن أئمة الحديث بحيث لم يختلفوا فيه، فجعلوه من الصحيح والمقبول عند
الأمة، كما فعل الغزالي في أساس القياس وغيره من كتب، وكذلك كما فعل الجويني في كتبه الأصولية.
فأهل الظاهر يردون علىأهل القياس:أن
القياس الفقهي ليس بشرع من الله تعالى، وأحكامه ليست بدين، فلا معنى للوقوف عنده،وإلزام الناس به، وعلى فرض التسليم أن هناك دليل يؤيده، فلم يقل أحد من
الصحابة أوالتابعين أو أتباعهم أن الناتج من القياس يجب أن يلزم به الناس، أو أنه شرع من الله تعالى، بل استعاذوا الله مما أفتوا به باجتهادهم واستغفروا الله من الخطأ
فيه، فلم يتجرأ أحد ويدعي أن حكمه بالرأي والظن هو حكم الله، فوجب إسقاطه وعدم العمل به
فإن قالوا:
أول من قال لا قياس في الشرع هو النظام.
قيل:
هذا باطل ؛ لأن أول من جرى على لسانه لفظ القياس هو حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمر
بن الخطاب فحذر من المقايسة، ومن الرأي، وكذلك غيره من الصحابة، وصح عن مسروق أنه
لم يقس خشية أن تزل قدمه، أخذاً من تحذير الله تعالى في تحريم الحلال وتحليل الحرام.وكذلك القاضي إياس بن معاوية بن قرة، []ابن الصحابي الجليل، كان
يبطل القياس، وكذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي وغيرهما وكان الشعبي يقول عن القياس: إذا جاءك فألقه في الحش ( مكان قضاء الحاجة ) ولو كان القياس شرع من الله ما تجرأ
الشعبي وقد لقي مئات من الصحابة وعاصرهم وكذلك أنكرجعفر الصادق بإسناد صحيح عند أهل السنة على أبي حنيفة عمله بالقياس في محاجة معروفة مشهورة، وكذلك استمر الإنكار من السلف رضي الله عنهم لإحداث شيء في الدين لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنالنظام جاء بعد
هؤلاء كلهم، فكيف يكون نفي القياس إنما هو مأخوذ من النظام المعتزلي ؟! لكن حين لم يجد أهل القياس ما يلزمون به أهل الظاهر أخذوا برميهم بهذه التهمة التي
تبطل بأدنى نظر
المسألة الثالثة:حقيقة قول أهل الظاهر في القياس الفقهي وهل هم متفقون
الفرع الأول: المتقدمون والمتأخرون من أهل الظاهر: عامتهم يبطلون
القياس الفقهي بأنواع، ولا يصح عن داود الظاهري ولا غيره أنهم قالوا بقياس جلي أو خفي، ومن نسب إليه أو إلى غيره من أهل الظاهر القول به فهو مخطئ ؛ لعدم نص أحدهم على هذا، ولتأكيد أهل الظاهر كابن حزم أنهم لم يقولوا بالقياس الفقهي بل ما ينسب إلى داود الظاهري باطل من خلال نقل ابن السبكي له في كتابه الطبقات، فلا يصح بحال أن ينسب لأحدهم القول به، ولو وجدوا هذا النص من أحدهم لطاروا به كل مطار، ولكن صح عن القاشاني والنهرواني القول بالقياس المنصوص على علته، وهما كانا ينتحلان
منهج أهل الظاهر، ثم تركاه، وكانا من عتاة المعتزلة، نسأل الله السلامة في ديننا
الفرع الثاني:
المعاصرون من أهل الظاهر: ]لا يمكن البحث عن قول المعاصر لصعوبة معرفة رأي أفرادهم، والعبرة بالتآليف والرسائل التي تنشر، وليس لأهل
الظاهر رسائل أو كتب معروفة، وإنما هناك أقوال مبثوثة سواء في كتب أو تحقيقات أورسائل صغيرة لبعض الذين يميلون لقول أهل الظاهر، تشير إلى موافقة قول من
سبقهم من أهل الظاهروالعبرة بإثبات القياس الفقهي: الدليل الموجب، فإن جاء أحد بهذا الدليل لنفع أهل الظاهر كلهم، ولبين لهم أنهم على خطأ، لكن الإشكالية حين يعتمد المثبت أشباه أدلة مثل ما اعتمد عليه أهل القياس والرأي
المسألة الثالثة:حكمالقياس الفقهي
القياس الفقهي عند أهل الظاهر باطل جملة ؛ لأنه لم يثبت الأمر به وإباحة العمل به بدليل قطعي، وإنما ثبت بالظنون والآراء، ولا يجوز إثبات أصل من أصول الدين بالظن
وكل ما استدل به أهل القياس فلا يرقى للقطعية، بل الكثير من هذه الأدلة لا يدل على إباحة القياس الفقهي أو جوازه، ولم يثبت إجماع عن الصحابة يجيز العمل به، فكان القياس الفقهي باطلاً
أولاً : الاستدلال بآيات القرآن الكريم
استدل الكثير من علماءالقياس وأهل الرأي بأدلة من القرآن الكريم، وليس في آية واحدة منها آية الاعتبار،فقالوا القدر المشترك في كلمة عبر هو المجاوزة من شيء إلى شيء، كما نعبر النهر من جانب إلى جانب آخر، فكذلك القياس وهذه الآية وردت في بيان حال اليهود حين حصارهم من المسلمين في أول سورة الحجر، وأنهم كانوا يخربون بيوتهم
بأيديهم وأيدي المؤمنين، فقال تعالى: { فاعتبروا يا أولي الألباب } ومن المعلوم عن أهل القياس أن لا قياس مع وجود الفارق، والفارق هنا: أن النص أبطل التسوية بين
المسلم والكافر في نصوص، فكيف نجعل المجرمين كالمسلمين، فنقيس حالنا لو عصينا بحال اليهود ؟! وهذا قياس باطل على مذهب أهل القياس
فأخذوا بالتمسك بكل آية فيها لفظ الاعتبار ليوهموا القارئ بأن حججهم قوية في إثباته، حتى قال الشوكاني مامعناه أنهم أشغلوا الحيز بما لا طائل تحته وقد ذكر ابن
القيم أدلة تفيد جواز القياس كما يرى، وعدها بالعشرات، لكنه نسي أنها لو كانت من القياس فالقياس عنده وعندهم يجوز حال فقد النص، والله تعالى لا يفقد نصاً في
المسألة،وإنما هذا من باب التمثيل لا من باب تعليمكم كيف تقيسون، خاصة أن التمثيل هذا في
الخلق ونحوه، وليس ذلك مما يقدر على الإنسان
ثانياً: الاستدلال بالأحاديث
قد استدل أهل القياس بأحاديث لتجويز القياس، كحديث معاذ في الاجتهاد بالرأي، فجعلوا القياس داخل تحت الاجتهاد، فما دام النص أجاز الاجتهاد فالقياس جائز أيضاًوهذا الحديث
منقطع لا يصح لأنه عن بعض أصحاب معاذ، وفيها ( اجتهد رأيي ولا آلوا ) فحاول ابن القيم تقويته لكن محاولاته تسقط بأدنى نظر، نعم أصحاب معاذ قد يكون منهم التقي، وقد يكون
أكثرهم تقي،لكن ما دام يحتمل أن يكون أحدهم ليس بتقي، أو أن أحدهم يدعي أنه من أصحاب معاذ، فلايجوز تقويتهم بحال، وهذه طريقة غريبة في التصحيح على المتقدمين في هذا
الفن، فليس كل صاحب لثقة عدل يكون مثله ثم إن الحديث هذا جاء عن ابن ماجة بمثل الإسناد أيضاً، وهو منقطع، ولكن ليس فيه ( اجتهد رأيي ولا آلوا )ولكن فيه ( أكتب إليوأكتب إليك ) أي أن معاذ يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ليكتب له الحكم الشرعي، فكما أخذوا الأولى فعليهم أن يأخذوا الثانية ما دامت نفس الإسناد ونفس الضعف وكلها عن أصحاب معاذ، فيقيدون الأولى بهذه الرواية الثانية، فيمنعون من الاجتهاد بالرأي، لكنهم تحكموا وأخذوا برواية واحدة وتركوا الثانية بلا حجةواستدلوا بأحاديث ظنوا
أنها من باب القياس، وهي كلها من باب التمثيل لمعلوم بمعلوم ليعلم السامع ويقرب لفهمه الحكم، وهي مذكورة في مقال ( الاعتبار في إبطال القياس من الأخبار ) في قسم
أصول الفقه فلتراجعها غير مأمور
ثالثاً: الاستدلال بالإجماع من الصحابة
[وقد استدلوا بإجماع وقالوا: أجمع الصحابة على العمل بالقياس الفقهي]وهذا إجماع مدعى،ولايوجد أصلاً، لأن الصحابة صح عنهم التحذير من القول على الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم بغير علم، والعلم هو اليقين، وما عداه ظن، والقياس ظن، فيكون القياس الفقهي داخلاً فيما أجمعوا على تحريمه[ولم يثبت عن صحابي واحد
أنه قال بالقياس الفقهي، ولا أثر وفتوى فيها قياس فقهي ألبتة، وإنما هي عمل بالعمومات ودلالات الألفاظ، فكيف يكون من القياس، وكيف يكون إجماعاً وقد صح نص فيه
عن ابن مسعود والتحذير منه، وكيف يكون إجماعاً والشعبي يلقي القياس بالحش
فأي إجماع هو ؟! ألا ينكر عليه أحد من الصحابة أو التابعين لقوله هذا ؟ ولو قاله عن السنة النبوية لضربوا عنقه، فالقياس ليس بشرع ولا يلتفت إليه ولو صح إجماع
فواجب أن يصح كذلك كيفية القياس، وشروطه، وأركانه، ومسالكه، فإن لم يكن بالنص فبالمعنى والشرح، ولم نر صحابياً يشرحه لنا، ولم نر تابعياً يبينه لنا، فكيف يكون
معلوماً عندهم ويجمعون عليه ويتركون الأمة بلا بيان له حتى جاء المعتزلة والأشعرية ليبنوا لنا هذا البيان المفقود !وقد قال أبو حنيفة: من لم يترك القياس في مجلس القضاء لم يفقه
ونحن نطالبهم بحسب قول إمام القياس عندهم أن يتركوه في الإلزام وعدم نسبة نتيجته إلى الشرع حتى يصدقوا في عملهم، فمن عدم الفقه أن يستعمل القياس في مجالس القضاء التي فيها إلزام للناس، فالقياس غير ملزم عند أبي حنيفة، وقد صدق الحاصل: أنه لا دليل يجيزالعمل بالقياس ونسبة نتائجه إلى الشرع، وإنما هي اجتهادات ظنية وأقوال رجال،
والمعتبر في الشريعة هو الكتاب والسنة الصحيحة فقط من يريد المناظرة فيه:هناك موضوع للمناظرة في مدى مشروعية القياس الفقهي في قسم أصول الفقه، فمن أحب المناظرة في
الموضوع فليتفضل هناك، ويلتزم ما أمر الله تعالى من الرد إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيما تنازعنا فيه، وأن يلتزم القطع من دلالة النصوص ليرتفع
الاختلاف[فمن لم يرغب بتطبيق الآية فلينظر في آخرها وليحذر سخط الله تعالى، إذ علق ذلك بالإيمان وقال تعالى: {فإن
تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }فالرد إلى الظن وآراء الرجال لن يرفع الاختلاف أبداً، وهو إبطال لمعنى الآية، ولايمكن
تحقيق معنى آية التنازع إلا بالقطعيات فقط، والله الموفق