وعن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: {أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.} رواه البخاري.
هذا الحديث، حديث ابن عمر -رضي الله عنه- ووصية النبي -صلى الله عليه وسلم- له به حياة القلوب؛ لأن به الابتعاد عن الاغترار بهذه الدنيا بشباب المرء، أو بصحته، أو بعمره، أو بما حوله.
قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: { أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي} وهذا يدل على الاهتمام بابن عمر، وكان إذ ذاك شابا صغيرا في العشر الثانية من عمره، قال: أخذ بمنكبي، فقال: { كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} وهذه من أعظم الوصية المطابقة للواقع لو عقل الناس، فإن الإنسان ابتدأ حياته في الجنة ونزل إلى هذه الأرض ابتلاء، فهو فيها غريب، أو عابر سبيل، فزيارته للدنيا - زيارة الجنس البشري - بأجمعه للدنيا هذه زيارة غريب، وإلا فإن مكان آدم ومن تبعه على إيمانه وتقواه وتوحيد الله -جل وعلا - والإخلاص له، فالمنزل هو الجنة، وإنما أخرج آدم من الجنة ابتلاء وجزاء على معصيته، وهذا إذا تأملته وجدت أن المرء المسلم حقيق أن يوطن نفسه، وأن يربيها على أن منزله الجنة، وليس هي هذه الدنيا، وهو في هذه الدنيا في دار ابتلاء، وإنما هو غريب، أو عابر سبيل كما قال المصطفى، صلى الله عليه وسلم.
وما أحسن استشهاد ابن القيم - رحمه الله تعالى - إذا ذكر أن حنين المسلم للجنة، وأن حبه للجنة ورغبه فيها هو بسبب أنها موطنه الأول، وأنه هو الآن سبي للعدو، ورحل عن أوطانه بسبب سبي إبليس لأبينا آدم، وهل ترى أن يرجع إلى داره الأولى أم لا؛ ولهذا ما أحسن قول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى*** مـا الحـب إلا للحبيب الأول
وهو الله -جلا جلاله-:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى*** وحنينـــه أبــدا لأول مــنزل
وهي الجنة.
وهذا إنما يخلص له قلب المنيبين إلى الله -جل وعلا - دائما، المخبتين له، الذين تعلقت قلوبهم بالله حبا ورغبا ورهبا وطاعة، وتعلقت قلوبهم بدار الكرامة بالجنة، ويعملون لها وكأنها بين أعينهم، فهم في الدنيا كأنهم غرباء، أو كأنهم عابرو سبيل، ومن كان على هذه الحال غريب، أو عابر سبيل، فإنه لا يأنس بمقامه؛ لأن الغريب لا يأنس إلا بين أهله، وعابر السبيل دائما على عجل من أمره، وهذه حقيقة الدنيا، فإنه لو عاش ابن آدم ما عاش، عاش نوح ألف سنة منها تسعمائة وخمسون سنة في قومه: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} ثم مضت وانتهت، وعاش أقوام مئات السنين ومضوا وانتهوا، وعاش قوم مائة سنة وثمانين، وأربعين وخمسين.
فالحقيقة أنهم غرباء وعابرو سبيل، مروا بهذه الدنيا وذهبوا، والموت يصبح المرء ويمسيه، فيجب على المرء أن ينتبه إلى نفسه، وأعظم ما يصاب به العبد أن يصاب بالغفلة عن هذه الحقيقة، الغفلة عن حقيقة الدنيا ما هي، فإذا من الله عليك بمعرفة حقيقة الدنيا، وأنها دار غربة، وأنها دار ابتلاء، دار اختبار، دار ممر وليست دار مقر، فإنه يصحو قلبه، وأما إذا غفل عن هذه الحقيقة، فإنه يصاب قلبه من مقاتله، أيقظنا الله وإياكم من أنواع الغفلات.
ابن عمر - رضي الله عنه - كان يوصي بمقتضى الوصية، فيقول: { إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء } يعني: كن على حذر دائما من الموت أن يفاجأك، فكن على استعداد، وقد قيل في عدد من علماء السلف علماء الحديث: كان فلان لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله.
لو قيل له: إنك تموت الليلة لما استطاع أن يزيد في عمله، وهذا يكون باستحضار حق الله -جل وعلا - دائما، وأنه إذا تعبد، فإنه يستحضر ذلك، ويخلص فيه لربه، وإذا خالف أهله يكون على الإخلاص وامتثال الشريعة، وإذا باع، أو اشترى يكون على الإخلاص، ويكون على الرغب في إتيان الحلال، وهكذا في كل أمر يأتيه، فإنه يكون على علم، وهذا فضل أهل العلم أنهم إذا تحركوا وعملوا، ففي كل حال يكونون فيه يستحضرون الحكم الشرعي فيه، فيمتثلون، أو يفعلون، وإن غلطوا، أو إن أذنبوا فسرعان ما يستغفرون، فيكونون بعد الاستغفار أمثل مما هم قبله، وهذه مقامات؛ ولهذا قال: { وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك } رواه البخاري.
الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ