بلغت الدولة العثمانية أوج مجدها في عهد سليمان الأول الذي يلقب بسليمان القانوني ، سواء أكان ذلك في مجال الفتوحات والتوسع الخارجي أو في مجال الإصلاحات الداخلية والرقي العلمي والحضاري ، وقد مات سليمان وترك لابنه سليم الثاني الوزير صوكللي الذي حافظ للدولة العثمانية على مجدها ، ففتحت على يديه جزيرة قبرص ، ولما اجتمع الأوربيون عليه في حلف صليبي ، وأوقعوا به الهزيمة البحرية في موقعة ليبانت أو ليبنتو لم يهدأ هذا الوزير حتى ثأر للدولة العثمانية من أوربا ، وأرغم إيطاليا أن تعوض الدولة العثمانية ما خسرته في المعركة السابقة ، وقد حرص هذا الوزير على أن تظل للدولة مكانتها الحضارية أيضا فأجرى الاتفاقيات التجارية التي توفر للدولة العلية الهيمنة الاقتصادية على أوربا ، وشرع في إنشاء مرصد فلكي غير أنه قد تآمر عليه الذين لا يهمهم غير مصالحهم وشهواتهم فقتلوه بحجة أن هذا المرصد يخالف تعاليم الإسلام .
يقول الأستاذ محمد فريد : وفي غضون ذلك قتل الصدر الأعظم محمد باشا صوقللي الذي حافظ على نفوذ الدولة بعد موت السلطان سليمان ، وتمكن بسياسته ودهائه من إبرام الصلح مع دول أوروبا المعادية لها ، وأنشأ عمارة بحرية بعد واقعة ليبنته ، وفتحت جزيرة قبرص بتعليماته وإرشاداته ، وكوفئ على خدماته الجليلة بالقتل لا لذنب جناه أو جناية ارتكبها ، بل هي دسائس حاشية السلطان قضت عليه بالموت غدرا تبعا لدسائس الأجانب الذين لا يروق في أعينهم وجود مثل هذا الوزير يدير دولاب الأعمال على محور الاستقامة ، فدسوا إليه من قتله تخلصا من صادق خدمته للدولة ، فكان موته ضربة شديدة ومحنة عظيمة..
وبمقتل الوزير صوقللي انتفت عن الدولة العثمانية مقولة : الدولة التي لا يهزم جيشها ، حيث كان النصر والتقدم ملازم لها ، وانتقلت إلى طور جديد يمكن أن نسميه بطور المد والجزر ، أي تتقدم فيها الدولة تارة وتتأخر تارة ، يكون لها النصر جولة وعليها جولة أخرى ، وكان ذلك مرتبط بشخصية السلطان وشخصية الصدر الأعظم ، فإذا ما كان السلطان أو صدره يمتلك القدرة على السيطرة على الجند كانت الجولة والنصر للدولة العثمانية ، لأن الهزائم التي كانت تلحق بها في تلك الفترة لم تكن بسبب تفوق عدوها وإنما لاضطراب جيشها.
فالوزير الذي جاء بعده مثلا بعد أن حقق الانتصارات على الدولة الصفوية وطمعت في الصلح في مقابل أن تتنازل للدولة العثمانية عن إقليم الكرج وشيروان ولورستان وجزء من أذربيجان ومدينة تبريز ـ وكان هذا بمثابة مكسب كبير للعثمانيين ـ ثارت عليه الانكشارية الذين كانوا يفضلون استمرار الحروب ضد الدولة الفارسية للنهب والسلب وارتكاب ما لا خير فيه ، وعجز الوزير والسلطان عن السيطرة عليهم ..
ثم ثاروا مرة أخرى بالقسطنطينية ، وطلبوا تسليم الدفترادار ناظر المالية ومحمد باشا بكلر بك الرومللي لقتلهما بدعوى أنهما أرادا أن يصرفا إليهم نقودا ناقصة العيار ، وحاصروهما في منزلهما إلى أن قتلوهما شر قتلة ، ولم يقو السلطان على منعهم ، وتمردوا مرة أخرى سنة 1593 م في الأستانة ، وأخرى في مدينة بود ، وقتلوا واليها ، وفي القاهرة ، وفي تبريز ( 1)..
ولما أراد الوزير سنان باشا الذي تولى الصدارة أن يشغلهم بحروب المجر والنمسا لم يصلح معهم ذلك ، بل وتسبب في فقد الدولة العثمانية لعدة قلاع ، مما اضطر سنان باشا لأن يخرج بنفسه على رأس الجيش لاسترجاع تلك القلاع ، ولكن الهزيمة الأولى قد جرأت ملوك الفلاخ والبغدان وترنسلفانيا على العصيان ، والتحالف مع رودلف الثاني ملك النمسا وإمبراطور ألمانيا على محاربة الدولة والحصول على الاستقلال ، فسار إليهم الصدر الأعظم سنان باشا في سنة 1595 ودخل مدينة بوخارست عاصمة الفلاخ عنوة ، ولكن ميخائيل أمير الفلاخ سرعان ما انتصر عليهم بسبب تراخي الجند وعصيانهم له ، ودخل مدينة ترجوفتس وقتل حاميتها ورئيسها ، فأخذ العثمانيون في الانسحاب والتقهقر خلف نهر الدانوب يتبعهم مخائيل الفلاخي ، وانتصر عليهم مرة ثانية بالقرب من مدينة جورجيا ..
ولما جاء السلطان محمد الثالث حاول أن يفرض سيطرته على الانكشارية ، وصار يخرج معهم في غزواتهم ، وبالتالي لم يجدوا فرصة للتمرد ، بل دبت الحمية الدينية والغيرة في قلوبهم العسكرية ، ونجح في فتح قلعة ارلو الحصينة التي عجز السلطان سليمان عن فتحها في سنة 1556 م ، ودمر جيوش المجر والنمسا تدميرا في سهل كرزت بالقرب من هذه القلعة في 26 أكتوبر سنة 1596 م حتى شبهت هذه الموقعة بواقعة موها كز التي انتصر فيها السلطان سليمان سنة 1526 م ..
ولكن السلطان محمد الثالث لم يعمر كثيرا ، ومات رحمه الله في 12 رجب سنة 1012هـ 16 ديسمبر سنة 1603 وعمره 37 سنة ، وخلفه ابنه أحمد الأول ، وعمره لم يتجاوز الرابعة عشر ، وهو عمر لا يسمح له بالسيطرة على الجند الذين ألفوا عدم الخضوع إلا لسلطان قوي ، فازداد التمرد عليه في الداخل ، وصادف ذلك اعتلاء عرش الصفويين العدو التقليدي للعثمانيين ملك قوي وهو الشاه عباس الأول ، فاستغل ضعف السلطان الصبي في اقتناص ما يمكن اقتناصه من الجزء الشرقي من الدولة العثمانية ، فقابله أحمد الأول بحشد قواته على الحدود الشرقية، وخشية من أن تنقلب عليه الأوضاع على الحدود الغربية أثناء الانشغال بقتاله وقع مع ملك النمسا معاهدة "زتفانوروك" ، وهي أول معاهدة تنازل الأتراك المزهوون بتوقيعها خارج القسطنطينية ، ودفعت النمسا للسلطان مائتي ألف دوكات، ولكنها أعفيت من أية جزية للدولة العثمانية .
ودخل السلطان أحمد الأول مع الشاه إسماعيل في عدة وقائع خسرت فيها الدولة العثمانية بعض بلاد العراق ومدائن تبريز ووان وغيرهما ، ثم انتهى الأمر بصلح مجحف لها في سنة 1612 م إذ نص على أن تترك للصفويين جميع الأقاليم والبلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيون من عهد السلطان الغازي سليمان الأول وسليمان القانوني بما فيها مدينة بغداد .
وهيمن الجند على مقاليد الأمور في حياة هذا السلطان ومن بعده ، فانشغلت الدولة بهم مما جرأ النمسا لأن تسعى لاقتطاع المجر وضمها إلى مملكتها ، ولكن المجريين رفضوا نير النمسا المسيحية ، وآثروا سماحة وعدل الإسلام ، ولم يخلعوا طاعة السلطان ..
كما امتنع أهالي إقليم ترنسلفانيا عن الدخول ضمن أملاك الإمبراطورية النمساوية أيضا لما عرض عليهم ذلك ، مفضلين البقاء تحت حماية الدولة العثمانية الإسلامية التي لم تتعرض لهم ، لا في دينهم ولا في عوائدهم ؛ اكتفاء بالجزية السنوية ..
وفي عصر مراد الثالث عاث بعض رؤساء الانكشارية فسادا في الأرض ، وقتلوا الصدر العظم على مرأى من مراد الرابع ، فعزم على أن يشتد عليهم ، وأظهر عزما شديدا قويا في مجازاة رءوسهم ، وبذلك داخلهم الرعب ، ووقعت مهابته في قلوبهم ، وخشيه الصغير والكبير والأمير والحقير ، وسار كل في طريقه مكبا على عمله ، وأمن الناس على أموالهم وأعراضهم من التعدي ، وسادت السكينة في القسطنطينية وضواحيها وجميع أنحاء المملكة ..
ثم سعى لأن يعيد للدولة ما فقدته من النفوذ بسبب إهمال بعض أسلافه ، فسار بنفسه إلى بلاد العجم لاسترجاع فتوحات السلطان الغازي سليمان الأول ففتح مدينة اريوان في 25 صفر سنة 1045هـ 10 أغسطس سنة 1635 م ..
وبعد ذلك قصد السلطان مدينة تبريز ففتحها عنوة في 28 ربيع الأول سنة 1045 هـ 10 سبتمبر سنة 1635 م ، وملك بغداد مرة أخرى في صبيحة 18 شعبان سنة 1048 هـ 25 ديسمبر سنة 1638 حيث بقيت في حوزة العثمانيين حتى انفصلت عنها مع تتابع الثورات العربية على الخلافة .
ومات مراد الرابع ولم يتجاوز عمره 31 عاما فجاء بعده إبراهيم الأول فاستغل فترة النشوة التي تمر بها البلاد بعد الانتصارات السابقة ، وعمل على المحافظة على قوتها ، ولم يتراخ في معاقبة من يمسها بسوء أو يتعدى حدودها ، فأرسل جيوشه إلى بلاد القرم لمحاربة القوزاق الذين احتلوا مدينة آزاق من قبل ، فحققت جيوشه النصر ، واستردوا المدينة منهم بعد أن أحرقوها ، وذلك سنة 1642 م ، كما أرسل الجيوش بعد ذلك لفتح جزيرة " كريد " ولكن الانكشارية سرعان ما خرجوا عليه وقتلوه خنقا ، واستخلفوا بعده محمد الرابع ، وكان صبيا صغيرا فوقعت البلاد في الفوضى ، وصارت الجنود لا ترحم صغيرا ، ولا توقر كبيرا ، وسعوا في الأرض فسادا ..
وكان لذلك أثره على هيبة الدولة في الخارج فتقهقرت قواتها التي كانت من قبل محاصرة لكنديا ، كما انهزمت الدونانمه العثمانية أمام دونانمة العدو أمام مدينة فوقيه سنة 1649م ..
ولولا ولاء المجر وتفضيلهم الحكومة العثمانية على حكومة النمسا لثاروا طلبا للاستقلال ..
كما تغلبت مراكب جمهورية البندقية على عمارة الدولة عند مدخل الدردنيل واحتلت تنيدوس وجزيرة لمنوس وغيرهما ، ومنعت بذلك المراكب الحاملة للقمح وأصناف المأكولات عن الوصول إلى القسطنطينية من هذا الطريق حتى غلت جميع الأصناف ..
واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن قيض الله سبحانه وتعالى للبلاد الوزير محمد باشا الشهير بكوبريلي الذي تولى منصب الصدارة سنة 1067 هـ 1656 م ، فعامل الانكشارية معاملة من يريد أن يطاع طاعة عمياء ، وقتل منهم خلقا كثيرا عندما ثاروا كعادتهم لما رأوه رجلا خبيرا بدخائل الأمور قادرا على قمعهم وإلزامهم العود إلى السكينة ، وأمر بعد تعيينه بقليل بشنق بطريرك الأروام لما ثبت له تدخله في الدسائس والفتن الداخلية ..
ثم أرسل المراكب لمحاربة سفن البنادقة المحاصرة لمدخل الدردنيل فانتصرت عليها ، واستردت ما احتله البنادقة من الثغور والجزائر ..
ولما فكر أمير ترنسلفانيا في الخروج على الدولة والاستقلال عنها قهره بكوبريلي ، وعين أخاه خلفا له ، يقول ول ديو رانت في قصة تمرد هذا الرجل : فلما تمرد جورج راكوكزي الثاني، أمير ترانسلقانيا على السيادة العثمانية اكتسح كوبريلي حركة التمرد بجيش يقوده بنفسه، وخلع راكوكزي.
وحاول أمير الفلاخ أن يجاهر بعصيانه واضطهد المسلمين ، وقتل منهم خلقا كثيرا ، وصادرهم في أموالهم وأملاكهم ، فخرج كوبريلي بنفسه إليه ، وانتصر عليه نصرا مبينا .
وكانت فرنسا قد حاولت أن تستفيد من الاضطرابات السابقة للكيد من الدولة العثمانية ولية الإنعام عليها فساعدت البنادقة سرا على الدفاع عن جزيرة كريد ، وأمدتها بالسلاح ؛ حتى ضبطت عدة مراسلات رمزية كانت مرسلة إلى المسيو دي لاهي مع شخص فرنساوي موظف في بحرية البندقية ، وهو سلمها بنفسه إلى الوزير كوبريلي سنة 1659 م طمعا في المال ، ولما لم يمكنه حل رموزها أرسل إلى الأستانة يستدعي السفير الفرنساوي فتظاهر بالمرض ، وأرسل ولده إلى أدرنه مكانه ، فلما مثل بين يدي الصدر الأعظم ، وسأله عن معنى هذه الرموز لم يراع في جوابه آداب المخاطبة التي تليق بالصدر الأعظم ، فأمر الصدر على الفور بسجنه في الحال ، ولما بلغ خبر سجنه إلى والده سافر إلى أدرنه خوفا على حياة ولده ، وقابل الوزير كوبريلي ، فأمره كوبريلي أن يرشده إلى معنى الجوابات المرموزة فرفض ، فقابل ذلك كوبريلي بالإبقاء على ابنه سجينا ..
ويبدو أن فرنسا كانت تستعد للتنمر على الدولة العلية فأرسل ملك فرنسا سفيرا اسمه المسيو دي بلندل إلى السلطان يطلب فيه الاعتذار عن سجن ابن السفير ، ثم عزل الصدر العظم ( وهي اللغة التي اعتادت أن تخاطب بها المسلمين بعد ضعفهم ، ولكن من سوء حظهم أن زمنها لم يكن قد حل بعد ) فرفض السلطان أن يقابله أو يدخل عليه في قصره ، وأحاله إلى الصدر الأعظم إمعانا في إذلاله ، فذهب إلى الصدر الأعظم فقابله بكل تعاظم وكبرياء ..
فأعلن ملك فرنسا مساعدة جزيرة كريد جهارا ، وأرسل إليها أربعة آلاف جندي ، وأجازت إلى البندقية جمع عساكر متطوعة من فرنسا ، وأمدت النمسا بالمال طمعا في إشغال الدولة وانتقاما منها ..
لكن لم تثن هذه الإجراءات عزيمة كوبريلي ، بل ازداد إصرارا على أن يحفظ للدولة هيبتها في الداخل والخارج ؛ حتى أعاد لها سالف مجدها ، وجعلها مهابة في أعين الدول أجمع بعد أن كادت تؤدي بها الفتن الداخلية إلى الدمار ، ولما أحس باقتراب أجله لاشتداد المرض عليه طلب منه السلطان محمد الرابع أن يدله على من يعينه خلفا له بعد وفاته فأوصاه بتولية ابنه أحمد ، ثم توفي سنة 1072 هـ 1661 م ..
ومن العجب أن هذا الوزير الذي كان ألباني الأصل كان عمره يوم تولى الوزارة 70 سنة ، ورغم ذلك لم يمنعه تقدم العمر به أن يعيد للدولة شبابها ، حتى قال عنه ول ديو رانت : السبعيني الرهيب..
وانتظرت فرنسا وانتظر الغرب أن يظل منصب الصدارة شاغرا من رجل عظيم مثل كوبريلي الذي أذلهم ، فكان ابنه وريثا له في المهارة والشجاعة والإقدام وحسن الرأي رغم صغر سنه ..
فاتبع نهج أبيه في عدم التساهل مع الجند ومجازاة من يقع منه أقل أمر مخل بالنظام بأشد العقاب ، ومحاربة أعداء الدولة بدون فتور أو ملال حتى يزيل من أذهانهم ما خامرها من تضعضع أحوال الدولة وقرب زوالها ، ولذلك لم يقبل ما فاتحته به دولة النمسا وجمهورية البندقية من الصلح ، وإنما قاد الجيوش بنفسه ، وعبر نهر الطونة لمحاربة النمسا ، ووضع الحصار أمام قلعة نوهزل في يوم 13 محرم سنة 1074 هـ 17 أغسطس سنة 1663 م ، ومع إن هذه القلعة كانت مشهورة في جميع أوروبا بالمناعة وعدم إمكان أي أحد التغلب عليها وفتحها إلا أن أحمد كوبريلي أرغم حاميتها إلى التسليم بشرط خروج من بها من الجنود بدون أن يمسهم ضرر تاركين ما بها من الأسلحة والذخائر ، وأخلوها فعلا في 25 صفر سنة 1074هـ 28 سبتمبر سنة 1663 بعد البدء في حصارها بستة أسابيع ..
ولذلك اضطربت أوروبا بأجمعها لهول هذا الخبر ، وكان هذا الفتح المبين أشد تأثيرا على ليوبولد إمبراطور النمسا أكثر من غيره لدخول الجيوش العثمانية في بلاده ، وانتشارها في إقليمي مورافيا وسيليزيا فاتحين غازين ؛ حتى خيل له أن السلطان سليمان قد بعث من رمسه لفتح ويانه عاصمة دولته .
ولذلك وسط البابا إسكندر السابع في طلبه المساعدة له من لويس الرابع عشر ملك فرنسا ، وكان قد عرض عليه في ابتداء الحرب إمداده بأربعين ألف من الألمانيين المحالفين له فأبى خوفا من إظهار الضعف ، فسعى البابا جهده لدى ملك فرنسا حتى قبل بإرساله ستة آلاف جندي فرنساوي وأربعة وعشرين ألف من محالفيه الألمانيين تحت قيادة الكونت دي كوليني ..
وانضم هذا الجيش إلى الجيش النمساوي بقيادة الكونت دي ستروتزي ، وابتدأت المناوشات بين الجيشين المتحاربين ، فقتل القائد العام النمساوي ، وخلفه القائد الشهير مونت كوكوللي ، وكان قد انضم إلى الجيش الفرنساوي عدد عظيم من شبان الأشراف تحت رئاسة الدوك دي لافوياد ، وحقق العثمانيون النصر على هذا الحلف النصراني في بداية المعركة ؛ حتى احتلوا مدينة سرنوار ، وعسكر أحمد كوبريلي على شاطئ نهر يقال له نهر راب والأعداء معسكرون أمامه ، وبعد أن حاول عبوره صدته الجيوش النمساوية الفرنساوية ، فجمع كل قواه في يوم 8 محرم سنة 1075هـ أول أغسطس سنة 1664 م ، وعبر النهر عنوة ، وبعد قليل انتصر على قلب جيش العدو ..
ولولا تدخل الفرنساويين وخصوصا الأشراف منهم لتم للعثمانيين النصر ، لكن لم يتمكن الانكشارية من الثبات أمام جنود العدو الأكثر منهم عددا ، فإنهم كلما قتل منهم صف تقدم الآخر ، وبذلك انتهى اليوم بدون انتصار تام لأحد الفريقين .. وحافظ العثمانيون على مراكزهم بدون تقدم للأمام ، وسميت هذه الواقعة بواقعة سان جوتار نسبة لكنيسة قديمة حصلت الحرب بالقرب منها ، وبعد ذلك تبادلت الاتصالات توصلا للصلح ..
وبعد عشرة أيام أبرمت بين الطرفين معاهدة على أن تقام هدنة بين الطرفين لمدة 20 عاما ، وأن يتم إخلاء الجيش لإقليم ترنسلفانيا وتعيين ابافي حاكما عليها تحت سيادة الدولة العلية ، وتقسيم بلاد المجر بين الدولتين بأن يكون للنمسا ثلاث ولايات ، وللباب العالي أربعة مع بقاء حصني نوفيجراد ونوهزل تابعين للدولة العلية ، وأن يُدفع للسلطان "هدية" بلغت 200.000 فلورين ..
وأنهى أحمد كوبريلي بذلك اتحاد العالم المسيحي ضد العثمانيين دون أن ينالوا خيرا .
ثم ذهب في 1669 م لفرض الحصار على جزيرة كريت، وأكره البنادقة على تسليم الجزيرة، وسيطر الأسطول العثماني بذلك مرة أخرى على البحر المتوسط.
وإن سألت عن السر في ذلك أخبرتك بأنه هو ضخ دماء جديدة دائما في عروق الدولة العثمانية ، فلم يكن كوبريلي هذا إلا رجلا من أبناء الألبان الذين كانوا يتصدون للمد الإسلامي بأوربا قبل ذلك ثم صاروا من جنوده الأوفياء فاستفادت الدولة من قوتهم ..
وبعد تلك الهزائم التي لحقت بالأوربيين كان لابد لفرنسا أن تعود راكعة أمام الباب العالي ، فأرسل الوزير الفرنسي سفيرا للدولة لإصلاح ذات بينهما ، فأبى الصدر تجديد الامتيازات الفرنساوية التجارية ، وحرمها حق إمرار بضائعها من مصر فالسويس إلى الهند ، وزيادة على ذلك منحت إلى جمهورية جنوا امتيازات خصوصية شبيهة بامتيازات إنكلترا ..
ولذلك جاهرت فرنسا بمساعدة مدينة كانديا على محاربة العثمانيين ، فسار الصدر سنة 1667 م بنفسه لتتميم فتح هذه المدينة الحصينة التي كادت تعيي الدولة ، واستمر الحصار والقتال مدة أكثر من سنتين لإمداد فرنسا لها بالمال والرجال والسفن الحربية ، وأخيرا اضطرت الحامية إلى التسليم فسلمها قائدها موروزيني في 29 ربيع الثاني سنة 1080 هـ 26 سبتمبر سنة 1669م بعد أن أمضى مع الصدر معاهدة بالنيابة عن جمهورية البندقية تقضي بالتنازل للدولة العلية عن جزيرة كريد ما عدا ثلاث قرى ، وهي قره بوزا وسودا وسبينا لونجا ، وصدقت البندقية عليها في فبراير سنة 1670 م ..
وفي هذه الأثناء كان المسيو دي لاهي سفير فرنسا مقيما بالأستانة يسعى جهده في الحصول على تجديد الامتيازات فلم يفلح ، فأرادت فرنسا أن تعيد امتيازاتها بالقوة ، فأرسل لويس الرابع عشر في سنة 1670 م سفيرا غيره يدعى الماركي دي نوانتل بعمارة بحرية حربية بقصد إرهاب الصدر وتهديده بالحرب إذا لم يذعن لطلبات فرنسا ..
فلم ترهبه هذه التظاهرات ، بل قابل السفير بكل سكون وقال له : إن تلك المعاهدات لم تكن إلا منحا سلطانية لا معاهدات اضطرارية واجبة التنفيذ ، وأنه إن لم يرتح لهذا الجواب فما عليه إلا الرحيل ..
ولما وصل هذا الجواب إلى ملك فرنسا أراد إعلان الحرب على الدولة ، ولولا نصائح الوزير كولبر لركبت فرنسا هذا المركب الخشن ، وجلبت لنفسها ضررا فادحا بقفل أبواب الشرق أمام مراكبها ، بل تمكن كولبر بحكمته وسياسته ومعاملة الدولة العلية باللين والخضوع من تجديد المعاهدات القديمة في سنة 1673 م ، وفوض ثانيا إلى فرنسا حق حماية بيت المقدس كما كان لها ذلك من أيام السلطان سليمان ، وبذلك عادت العلاقات إلى سابق صفائها بين الدولتين ..
وكما قلنا كثيرا : إن النصر يجلب النصر ، والمجد يولد المجد فقد رأى الروس ما أحرزه أحمد كوبلريلي من انتصارات رفعت من هيبة الدولة فأسرعت جميع القوزاق الساكنين بالجزء الجنوبي من بلاد روسيا إلى السلطان محمد الرابع تعلن الدخول في حلفه ، ولم تعلن عليهم الحرب من قبل ، ولكن حبا في الدخول في حمى حامي دولة الإسلام ..
ولما حصل وأغارت بولونيا على ولاية اوكرين استنجد حاكمها الأكبر بالعثمانيين فانجده السلطان ، وسار بنفسه في جيش جرار ، ووصل في قليل من الزمن إلى حصن رامنيك في 23 ربيع آخر سنة 1083 18 أغسطس سنة 1672 واحتل هذا الحصن عنوة بعد محاصرة استمرت عشرة أيام ، وكذلك احتل مدينة لمبرج الشهيرة ، فطلب سلطانهم ميشل الصلح على أن يترك إقليم أوكرين للقوزاق وولاية بودوليا للدولة العلية ، ويدفع لها جزية سنوية قدرها مائتان وعشرون ألف بندقي ذهبا ، فقبل السلطان هذه الشروط ..
وكانت هذه المعاهدة خاتمة أعمال أحمد كوبريلي الذي توفي بعد إتمامها بقليل في 24 رمضان سنة 1087 30 أكتوبر سنة 1676 عن واحد وأربعين سنة قضى منها خمس عشرة سنة في منصب الصدارة العظمى بكل أمانة وصداقة سائرا في ذلك على خطة والده المرحوم كوبريلي محمد باشا ، وامتدت مساحة الدولة العثمانية إلى أوسع مداها في أوربا