الصلاة مفتاح القلوب فيها تنكشف أسرار الكلمات فهذا حق القراءة وهو حق الأذكار والتسبيحات أيضاً.
ثم يراعي الهيبة في القراءة فيرتل ولا يسرد فإن ذلك أيسر للتأمل.
ويفرق بين نغماته في آية الرحمة والعذاب والوعد والوعيد والتحميد والتعظيم والتمجيد.
كان النخعي إذا مر بمثل قوله عز وجل " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " يخفض صوته كالمستحي عن أن يذكره بكل شيء لا يليق به.
وروي أنه يقال لقارىء القرآن " اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا " وأما دوام القيام فإنه تنبيه على إقامة القلب مع الله عز وجل على نعت واحد من الحضور قال صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل مقبل على المصلي ما لم يلتفت " وكما تجب حراسة الرأس والعين عن الالتفات إلى الجهات فكذلك تجب حراسة السر عن الالتفات إلى غير الصلاة.
فإذا التفت إلى غيره فذكره باطلاع الله عليه وبقبح التهاون بالمناجي عند غفلة المناجي ليعود إليه.
وألزم لخشوع القلب فإن الخلاص عن الالتفات باطناً وظاهراً ثمرة الخشوع.
ومهما خشع الباطن خشع الظاهر قال صلى الله عليه وسلم وقد رأى رجلاً مصلياً يعبث بلحيته " أما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه " فإن الرعية بحكم الراعي.
ولهذا ورد في الدعاء " اللهم أصلح الراعي والرعية " وهو القلب والجوارح.
وكان الصديق رضي الله عنه في صلاته كأنه وتد.
وابن الزبير رضي الله عنه كأنه عود.
وبعضهم كان يسكن في ركوعه بحيث تقع العصافير
عليه كأنه جماد وكل ذلك يقتضيه الطبع بين يدي من يعظم من أبناء الدنيا فكيف لا يتقاضاه بين يدي ملك الملوك عند من يعرف ملك الملوك وكل من يطمئن بين يدي غير الله عز وجل خاشعاً وتضطرب أطرافه بين يدي الله عابثاً فذلك لقصور معرفته عن جلال الله عز وجل وعن إطلاعه على سره وضميره.
وقال عكرمة في قوله عز وجل " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين " قال: قيامه وركوعه وسجوده وجلوسه.
وأما الركوع والسجود فينبغي أن تجدد عندهما ذكر كبرياء الله سبحانه وترفع يديك مستجيراً بعفو الله عز وجل من عقابه بتجديد نية ومتبعاً سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم تستأنف له ذلاً وتواضعاً بركوعك وتجتهد في ترقيق قلبك وتجديد خشوعك وتستشعر ذلك وعز مولاك واتضاعك وعلو ربك.
وتستعين على تقرير ذلك في قلبك بلسانك فتسبح ربك وتشهد له بالعظمة وأنه أعظم من كل عظيم وتكرر ذلك على قلبك لتؤكده بالتكرار.
ثم ترتفع من ركوعك راجياً أنه راحم لك ومؤكداً للرجاء في نفسك بقولك " سمع الله لمن حمده " أي أجاب لمن شكره.
ثم تردف ذلك الشكر المتقاضي للمزيد فتقول " ربنا لك الحمد " وتكثر الحمد بقولك " ملء السموات وملء الأرض " ثم تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات الاستكانة فتمكن أعز أعضائك وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب.
وإن أمكنك أنلا تجعل بينهما حائلاً فتسجد على الأرض فافعل فإنه أجلب للخشوع وأدل على الذل.
وإذا وضعت نفسك موضع الذل فاعلم أنك وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى أصله فإنك من التراب خلقت وإليه تعود فعند هذا جدد على قلبك عظمة الله وقل " سبحان ربي الأعلى " وأكده بالتكرار فإن الكرة الواحدة ضعيفة الأثر فإذا رق قلبك وظهر ذلك فلتصدق رجاءك في رحمة الله فإن رحمته تتسارع إلى الضعف والذل لا إلى التكبر والبطر فارفع رأسك مكبراً وسائلاً حاجتك وقائلاً " رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم " أو ما أردت من الدعاء.
ثم أكد التواضع بالتكرار فعد إلى السجود ثانياً كذلك.
وأما التشهد فإذا جلست له فاجلس متأدباً وصرح بأن جميع ما تدلي به من الصلوات والطيبات أي من الأخلاق الطاهرة لله.
وكذلك الملك لله وهو معنى " التحيات " وأحضر في قلبك النبي صلى الله عليه وسلم وشخصه الكريم وقل " سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وليصدق أملك في أنه يبلغه ويرد عليك ما هو أوفى منه.
ثم تسلم على نفسك وعلى جميع عباد الله الصالحين.
ثم تأمل أن يرد الله سبحانه عليك
سلاماً وافياً بعدد عباده الصالحين.
ثم تشهد له تعالى بالوحدانية ولمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة مجدداً عهد الله سبحانه بإعادة كلمتي الشهادة ومستأنفاً للتحصن بها.
ثم ادع في آخر صلاتك بالدعاء المأثور مع التواضع والخشوع والضراعة والابتهال وصدق الرجاء بالإجابة.
وأشرك في دعائك أبويك وسائر المؤمنين.
واقصد عند التسليم السلام على الملائكة والحاضرين وانو ختم الصلاة به.
واستشعر شكر الله سبحانه على توفيقه لإتمام هذه الطاعة.
وتوهم أنك مودع لصلاتك هذه وأنك ربما لا تعيش لمثلها.
وقال صلى الله عليه وسلم للذي أوصاه " صل صلاة مودع " ثم أشعر قلبك الوجل والحياء من التقصير في الصلاة وخف أن لا تقبل صلاتك وأن تكون ممقوتاً بذنب ظاهر أو باطن فترد صلاتك في وجهك وترجو مع ذلك أن يقبلها بكرمه وفضله.
كان يحيى بن وثاب إذا صلى مكث ما شاء الله تعرف عليه كآبة الصلاة.
وكان إبراهيم يمكث بعد الصلاة ساعة كأنه مريض.
فهذا تفصيل صلاة الخاشعين الذين هم في صلاتهم خاشعون.
والذين هم على صلواتهم يحافظون.
والذين هم على صلاتهم دائمون.
والذين هم يناجون الله على قدر استطاعتهم في العبودية فليعرض الإنسان نفسه على هذه الصلاة فبالقدر الذي يسر له منه ينبغي أن يفرح وعلى ما يفوته ينبغي أن يتحسر وفي مداراة ذلك ينبغي أن يجتهد.
وأما صلاة الغافلين فهي محظرة إلا أن يتغمده الله برحمته والرحمة واسعة والكرم فائض فنسأل الله أن يتغمدنا برحمته ويغمرنا بمغفرته إذ لا وسيلة لنا إلا الاعتراف بالعجز عن القيام بطاعته.
واعلم ان تخليص الصلاة عن الآفات وإخلاصها لوجه الله عز وجل وأداءها بالشروط الباطنة التي ذكرناها من الخشوع والتعظيم والحياء سبب لحصول أنوار في القلب تكون تلك الأنوار مفاتيح علوم المكاشفة.
فأولياء الله المكاشفون بملكوت السموات والأرض وأسرار الربوبية إنما يكاشفون في الصلاة لاسيما في السجود إذ يتقرب العبد من ربه عز وجل بالسجود.
ولذلك قال تعالى " واسجد واقترب " وإنما تكون مكاشفة كل مصل على قدر صفائه عن كدورات الدنيا ويختلف ذلك بالقوة والضعف والقلة والكثرة وبالجلاء والخفاء حتى ينكشف لبعضهم الشيء بعينه وينكشف لبعضهم الشيء بمثاله كما كشف لبعضهم الدنيا في
صورة جيفة والشيطان في صورة كلب جاثم عليها يدعو إليها.
ويختلف أيضاً بما فيه المكاشفة فبعضهم ينكشف له من صفات الله تعالى وجلاله ولبعضهم من أفعاله ولبعضهم من دقائق علوم المعاملة.
ويكون لتعين تلك المعاني في كل وقت أسباب خفية لا تحصى وأشدها مناسبة الهمة فإنها إذا كانت مصروفة إلى شيء معين كان ذلك أولى بالانكشاف ولما كانت هذه الأمور لا تتراءى إلا في المرائي الصقيلة وكانت المرآة صدئة فاحتجبت عنها الهداية لا لبخل من جهة المنعم بالهداية بل لخبث متراكم الصدإ على مصب الهداية تسارعت الألسنة إلى إنكار مثل ذلك إذ الطبع مجبول على إنكار غير الحاضر ولو كان للجنين عقل لأنكر إمكان وجود الإنسان في متسع الهواء ولو كان للطفل تمييز ما ربما أنكر ما يزعم العقلاء إدراكه من ملكوت السموات والأرض وهكذا الإنسان في كل طور يكاد ينكر ما بعده.
ومن أنكر طور الولاية لزمه أن ينكر طور النبوة وقد خلق الخلق أطواراً فلا ينبغي أن ينكر كل واحد ما وراء درجته نعم لما طلبوا هذا من المجادلة والمباحثة المشوشة ولم يطلبوها من تصفية القلوب عما سوى الله عز وجل فقدوه فأنكروه.
ومن لم يكن من أهل المكاشفة فلا أقل من أن يؤمن بالغيب ويصدق به إلى أن يشاهد بالتجربة ففي الخبر " إن العبد إذا قام في الصلاة رفع الله سبحانه الحجاب بينه وبين عبده وواجهه بوجهه وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء بصلاته ويؤمنون على دعائه - وإن المصلي لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه وينادي مناد: لو علم هذا المناجي ما التفت.
وإن أبواب السماء تفتح للمصلين.
وإن الله عز وجل يباهي ملائكته بعبده المصلي " ففتح أبواب السماء ومواجهة الله تعالى إياه بوجهه كناية عن الكشف الذي ذكرناه.
وفي التوراة مكتوب: يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدي مصلياً باكياً فأنا الله الذي اقتربت من قلبك وبالغيب رأيت نوري قال: فكنا نرى أن تلك الرقة والبكاء والفتوح الذي يجده المصلي في قلبه من دنو الرب سبحانه من القلب.
وإذا لم يكن هذا الدنو هو القرب بالمكان فلا معنى له إلا الدنو بالهداية والرحمة وكشف الحجاب.
ويقال إن العبد إذا صلى ركعتين عجب منه عشرة صفوف من الملائكة كل صف منهم عشرة آلاف وباهى الله به مائة ألف ملك.
وذلك أن العبد قد جمع في الصلاة بين القيام والقعود والركوع والسجود وقد فرق الله ذلك على أربعين ألف ملك فالقائمون لا يركعون إلى يوم القيامة والساجدون لا يرفعون إلى يوم القيامة وهكذا الراكعون والقاعدون فإن ما رزق تعالى الملائكة من القرب والرتبة لازم مستمر على حال واحد لا يزيد ولا ينقص لذلك أخبر الله عنهم أنهم قالوا " وما منا إلا له مقام معلوم " وفارق الإنسان الملائكة في الترقي من درجة إلى درجة فإنه لا يزال يتقرب إلى الله تعالى فيستفيد مزيد قربه وباب المزيد مسدود على الملائكة عليهم السلام وليس لكل واحد إلا رتبته التي هي وقف عليه.
وعبادته التي هو مشغول بها لا ينتقل إلى غيرها ولا يفتر عنها " لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " ومفتاح مزيد الدرجات هي الصلوات.
قال الله عز وجل " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " فمدحهم بعد الإيمان بصلاة مخصوصة وهي المقرونة بالخشوع.
ثم ختم أوصاف المفليحن بالصلاة أيضاً فقال تعالى " والذين هم على صلواتهم يحافظون " ثم قال تعالى في ثمرة تلك الصفات " أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " فوصفهم بالفلاح أولاً وبوراثة الفردوس آخراً وما عندي أن هذرمة اللسان مع غفلة القلب تنتهي إلى هذا الحد ولذلك قال الله عز وجل في أضدادهم " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين " فالمصلون هم ورثة الفردوس وهم المشاهدون لنور الله تعالى والمتمتعون بقربه ودنوه من قلوبهم.
نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يعيذنا من عقوبة من تزينت أقواله وقبحت أفعاله إنه الكريم المنان القديم الإحسان وصلى الله على كل عبد مصطفى.
إحياء علوم الدين