جاء في فواتح سورة الشمس:" وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا...."، وقد استشكل البعض قوله تعالى:"والنهارِ إذا جلاها..."، لأنّ ظاهر الأمر أنّ الشمس هي التي تُجلّي النهار وليس العكس!!
واضح أنّ الضمير يرجع إلى الشمس، إلا أنّ ابن كثير اضطر إلى أن يُرجع الضمير إلى الأرض التي لم تُذكر في النص الكريم؛ يقول ابن كثير:" قلتُ: ولو أنّ هذا القائل تأوّل ذلك بمعنى وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا أي: البسيطة، لكان أولى، ولصح تأويله". ويحق لابن كثير، رحمه الله، أن يستشكل النص الكريم فيجد المخرج في إرجاع الضمير إلى غير مذكور. كيف لا، وظاهر الأمر يؤكد أنّ الشمس هي التي تُجلّي النهار؟.
والذي نراه أنْ لا إشكال، بل إنّ في الآية الكريمة إعجازاً علمياً، وبيان ذلك في الآتي:
يقول الطاهر بن عاشور في التحرير عند تفسيره للآية 25 من سورة البقرة:" والأنهار: جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح. والنهر: الأُخدود الجاري فيه الماء على الأرض، وهو مشتق من مادة نَهَر الدالة على الانشقاق والاتساع..".
وأغلب ما عليه أهل التفسير أنّ معنى النهر يدور حول السّعة، على اعتبار أنّ النهر أوسع من الجدول. أما معنى الشق، فالذي نراه أنّه ليس من معاني النهر، إلا أن يكون الشق يقصد به إجراء النهر. أما النهر بمعنى السيلان والجريان فيبدو أنّه قد جاء تبَعاً ولم يكن أصلاً لمعنى النهر، وذلك لأنّ النهر يسيل ويجري بقوة وكثافة.
ويقول الألوسي في روح المعاني:" والتركيب للسعة، ولو معنويّة، كنَهَر السائل بناءً على أنه الزجر البليغ...". فالتوسع في الزجر هو نهر.
ولنا هنا وجهة نظر تختلف، نقول:
جاء في سورة الضحى:" وأما السائل فلا تنهر"، وجاء في الآية 23 من سورة الإسراء:"... فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما..."، فالنهر هنا بمعنى الزجر، ويبدو أنّه هو الأصل في معنى النهر. وإذا كان الزجر هو المعنى الأصلي للنهر فلماذا سمي نهر الماء نهراً؟ نقول: بما أنّ ماء النهر يسير في أخدود ملتوٍ غير مستقيم فالماء يكون في حالة زجر مستمر من قبل جوانب الأخدود الملتوي. أما البحر فالماء فيه يمتد ويتسع ولا يجري جري النهر، ولا يُزجَر – يُنهَر- ماؤه. ولو كان النهر فيه معنى السعة لكان البحر أولى وأحق باسم النّهر. ولعل الماء القادم من المنابع والذي يَنهر الماء الذي أمامه من أسباب الاسم؟
أما النهار، فقد سمي نهاراً لاتساع ضوئه وانتشاره. هذا ما عليه أهل اللغة والتفسير. والذي نراه أنّ هناك احتمالاً أن يكون اسم النهار قد أخذ من النهر الذي هو الزجر. ولإيضاح مقصدنا هنا نقول: عندما يكون الشخص مسترسلاً في كلامه فتزجره فإنّما أنت تمنعه من الاستمرار في كلامه حتى لا ينتهي إلى مقصده. وإذا كان سائراً نحو مقصده فتزجره فإنما تقصد أن تصرفه عن مقصده، ولا تهدف إلى أن يرجع إلى المكان الذي قَدِم منه. فالنهر زجرٌ عن الاستمرار بقصد الردع عن الوصول إلى الهدف. ولو كان بقصد الرجوع إلى نقطة البداية لكان عكساً.
من هنا ليس دقيقاً استخدام لفظة انعكاس عند الحديث عن انحراف الضوء، لأنّ الضوء لا يرجع إلى النقطة التي صدر منها، وإنما ينحرف عن طريقه المستقيمة نتيجة وجود جسم يحرفه، أي يزجره، أي ينهره.
عندما نخرج من الغلاف الجوي للأرض نفاجأ بظلامٍ دامس على الرغم من وجود الشمس ومليارات النجوم؛ لأنّ الضوء يسير بخطوط مستقيمة ولا يتشتت عبر الانعكاس – أقصد النهر – لعدم وجود أجسام تنهر هذا الضوء الصادر من الشمس. ولكن عندما يدخل هذا الضوء الغلاف الجوي يتشتت نتيجة الانعكاس – أقصد النهر – فينتشر الضوء ويملأ الأفق ويكون النهار.
فالشمس لا يجليها ولا ينشر ضوءها إلا ما يعكس هذا الضوء ويشتته وينهره. فالنهار إذن هو الذي يُجلي ضوء الشمس.
ويشغب على هذا أنّ الناس عند نشأة اللغة لم يكونوا يعرفون هذه الحقيقة العلميّة، فكيف تسنى لهم أن يسمّوا النهار نهاراً؟ نقول: لسنا مع الذين يقولون بأنّ أصل اللغة العربيّة هو توقيفي – أي وحياً -، ولسنا مع الذين يقولون بأنّ اللغة العربيّة هي اصطلاحيّة؛ بل نرى أنّ من اللغة ما هو توقيفي ومنها ما هو اصطلاحي، فاسم إبليس مثلاً موجود قبل وجود الإنسان كما ينص القرآن الكريم، وآدم عليه السلام عُلِّم أسماءً لم يسمّها هو، وتلقى من الله كلمات قالها فغفر له...الخ.
وعلى أية حال – وبعيداً عن كل ما قلناه - فهناك ليل وهناك نهار، والشمس موجودة في ليلِ وظلامِ السماء وموجودة في نهار الأرض، فلماذا لا يتجلّى ضوؤها في ليل السماء ويتجلّى في نهار الأرض؟ ألا يصح أن نقول: فلنبحث عن سبب تجلّي ضوئها في مكونات النهار فقط، لأنّ ضوء الشمس موجود في ليل السماء أيضاً.