فما أحوج القلب إلى (الذكرى) ! لأن الذكرى استحياء للفطرة، وتوثيق للعهد، وتجديد للإيمان. وضدها (الغفلة) التي هي نوع (موات) و (حجاب) يحول بين القلب، وبين نعيمه، وسروره. ولذا حض الله على الذكرى، فقال: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : 55] ، وصوَر نبيه صلى الله عليه وسلم حال القلب، وما يطرأ عليه، وطريقة كشفه،وعلاجه، فقال : (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِى، وَإِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) رواه مسلم.
وحين يغفل المؤمن عن تعاهد قلبه، ويسترسل في مشاغل دنياه، ولا يتفطن لهذا (الغان) الطارئ، فلربما تعاظم، وتفاقم، حتى وصل إلى مرحلة (الران) الذي يجثم على القلب، فيحجبه عن الحق، ويعيقه عن الامتثال للأمر، كحال من وصف الله من المطففين : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : 14 ، 15]
بل إن تلك الغفلة قد تدرك بعض الصالحين، والدعاة، وطلبة العلم، حين ينهمكون في بعض شؤونهم، بصورة منزوعة الذكرى، غير مستصحبة لروح التعبد، والتأسي، فلا تثمر الثمرة المرجوة.
فالرجل الصالح حين يكون همه المحافظة على صورة العمل، وضبط الأوراد، والالتزام بسلوك معين، دون تذوق للمعاني، وتحسس لمعنى التعبد، يصيبه لفح خفي من هذه الغفلة !
والداعية المستغرق في استجلاب الناس، والتلطف لهم بأساليب القول، وحسن التأتي، حين يغيب عنه معنى الاستهداء، والاستعانة، والتوكل، قد يلتاث بلوثة طائشة من رشاش بعض المدعوين، فتمرضه!
وطالب العلم المنهمك في البحث والتحصيل، حين لا يستشعر أن تمرة العلم الخشية، قد تلحقه (ضراوة) وينتفخ سحره بنَفَس حار، لا يليق بسمت العلم وأهله.
فإذا كان هذا حال هؤلاء الفضلاء، فما بالك بأهل الدنيا؟ ألا ما أضعف ابن آدم!
ولما علم الله ضعف عباده، وشدة حاجتهم إلى (الذكرى)، فتح لهم أبواباً إليها. ومن أعظم طرائق الذكرى :
1- القرآن العظيم : قال تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق : 45]، وقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام : 51]، وقال: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) [المدثر : 54]. فلا أعظم من موعظة القرآن، ولا أبلغ من تذكرته. فما أحرى الناصح لنفسه، أن يداوي قلبه بالقرآن، ويتملى معانيه، ليرد نفسه، وقلبه إلى الجادة.
2-الاستغفار : كما كان يصنع نبينا صلى الله عليه وسلم : (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِى، وَإِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِى الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) رواه مسلم.
3- تذكر الموت، واليوم الآخر : ففي الحديث: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) يعني الموت. رواه النسائي، والترمذي، وأحمد، وصححه الألباني.
4-مجالسة الصالحين، ومجانبة الغافلين : قال تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف : 28]
وبالجملة ، فالحاجة إلى الذكرى حاجة ملحة، سيما في هذه الأزمان، التي كثر فيها دواعي الافتتان، وقلَّ فيها المذكِّر، الصدوق، وكثر فيها المخذل، المثبط، المفتون. عصمنا الله من مضلات الفتن، وألزمنا كلمة التقوى، وثبتنا على الحق إلى يوم نلقاه.