المقدمة
الحمد لله الذى رضى لنا الإسلام ديناً ، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبينا وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً ، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً ، وذخر لمن وافاه به ثواباً جزيلا وفوزاً عظيماً ، وفرض علينا الإنقياد له ولأحكامه ، والتمسك بدعائمه وأركانه ، والإعتصام بعراه وأسبابه ، فهو دينه الذى ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه ، فيه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون . ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ آل عمران 83 . فلا يقبل من أحد ديناً سواه من الأولين والآخرين . ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ آل عمران 85 .
شهد بأنه دينه قبل شهادة الأنام ، وأشاد به ورفع ذكره وسمى به أهله وما اشتملت عليه الأرحام .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ضد له ولا ندًّ له ، ولا صاحبة له ولا ولد له ، ولا كفؤ له ، تعالى عن إفك المبطلين ، وخرص الكاذبين ، وتقدس عن شرك المشركين ، وأباطيل الملحدين .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته . وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده : ابتعثه بخير ملة وأحسن شرعة . وأظهر دلالة وأوضح حجة ، وأبين برهان إلى جميع العالمين إنسهم وجنهم ، عربهم وعجمهم ، حاضرهم وباديهم ، الذى بشرت به الكتب السالفة ، وأخبرت به الرسل الماضية وجرى ذكره فى الأعصار فى القرى والأمصار والأمم الخالية ، ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبى البشر ، إلى عهد المسيح ابن البشر . اللهم صلى وسلم وبارك عليه ، وعلى آل بيته الأطهار وعلى صحابته الأخيارومن استن هديهم وصار على طريقهم إلى يوم البعث للواحد القهار .
أما بعد
فإن ما يثلج الصدر ، ويبعث فى النفس كثيراً من الاطمئنان والتفائل ـ ما نراه اليوم من صحوة اسلامية تنتظم قطاعاً ضخماً من شباب وفتيات الإسلام ، وهذه ظاهرة صحية تدل على الحضارة الحقيقة ، والتقدم المستقيم إلى الهدف المنشود . وإن كانت الطبيعة الإنسانية تنشد المجد والسداد والسؤدد ، فإن منهج السماء المستقيم هو أمثل الطرق إليه ، ومن نكب ، أو جنف عنه لابد أنه سيجد نفسه فى غيابات الضياع والتأخر والتخلف ، فهذه العروة لمن أراد خير الدنيا ، والآخرة فعليه بها .
وإن كانت المرأة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى كثير من الإحاطة بأمور دينها وشئون حياتها .
لا سيما وأن كثيراً من الأقلام المغموزة المضللة تنفث سمومها فى صورة ملتوية عرجاء إذ تصور لها أن الحجاب رجعية ، وأن الوقار تخلف ، وأن العفة انغلاق ، وأن الحشمة تدابر ، وأن الحرية أن يكون لها مطلق الفكر والفهم والتأويل ، وهذا خطر فادح وشر مستطير وقاها الله منه إذ أنه من أفرق الموبقات ، وهو مخالف كل المخالفة لصريح المنهج الإسلامى الصحيح .
لقد أرادوا للمرأة أن تكون دريئة للفتن ، وأن تصبح جزراً لسيوف التخلف ، فظهروا لها بمظهر الناصح ، مضمرين لها سوء الدخيلة ، وردئ الضربية .
حتى ضل منهن من ضل ، وحار منهن الكثير بين تأويل العلمانين والمتفرنجين ونصائح الدعاة المعتدلين الذين قضوا حياتهم بين صفحات وتراث أهل السلف الصالحين .
لذا وجدت لزاماً علىّ أن أتقدم بهذه الرسالة إلى نساء الأمة فى مشارق الأرض ومغاربها لعل الله أن ينفع بها المسلمات إنه هو القادر على ذلك سبحانه .
وقد آثرت أن تكون على عدة أجزاء الأول منها كيف كانت حياة الجيل والرعيل الأول من نساء هذه الأمة الميمونة ، وكيف ضربوا لنا أروع الأمثلة فى التضحية والفداء من أجل نصرة هذا الدين لعلنا نتخذ من حياتهم العظة والعبرة وأن نقتدى بأفعالهم ونقتفى أثرهم .
والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى
الناغى بن عبد الحميد العريان
ترعة غنيم – شربين – دقلهلية
جمهورية مصر العربية
الخامس عشر من شعبان 1430 هـ
الجزء الأول
كان للمرأة دوراً جوهرياً فى صدر الدعوة الإسلامية لا يستطيع إنكاره أحد وتجسد هذا الدور فى مواقف عديدة لأمهات المؤمنين وأولهم أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزَّى بن قصى القرشية الطاهرة ، زوج رسول الله ثم نساء الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم جميعاً ، ثم نساء السلف الصالح من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
فأول ما أود أن أبدء به . أم المؤمنين ( خديجة بنت خويلد ) رضى الله تعالى عنها لما بَذلته من عطاءات وتضحيات فى سبيل نصرة هذا الدين والوقوف بجانب النبى . فأول ما سنقف عليه بعون الله تعالى وقوته لنا . هو مشهد من أعنف المشاهد قوة فى حياة رسول الله ، وهذا المشهد هو الذى غير وجه البشرية جمعاء .
فنرى ما رواه الإمامان البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت : أول ما بدئ رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالى ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذنى فغطنى الثالثة ، ثم أرسلنى فقال : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال : زملونى زملونى . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خَشيتُ على نفسى . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكَلَّ ، وتَكسبُ المعدوم ، وتَقرى الضيف ، وَتُعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى – ابن عم خديجة – وكان امرءاً تنصر فى الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبرانى ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً عمى ، فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : يا ابن أخى ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس الذى نزَّل الله على موسى ، ياليتنى فيها جزعاً ، ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله أو مخرجىّ هم ؟ قال نعم ، لم يأتى رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودىَ ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفى ، وفتر الوحى . ( 1 )
_________________________
( 1 ) الحديث رواه البخارى ( الفتح ) جـ 1 / 30
فإذا نظرنا فى هذا الحديث نظرة تدبر وإمعان لاستخرجنا منه فوائد جمة ووقفات من أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها أثبتت فيها دور المرأة المسلمة الحقة فى نصرة هذا الدين القيم إذ كان النبى يتركها الليالى ذوات العدد .
وقد صرح ابن حجر فى الفتح بأن هذه الليالى كانت شهراً ، وقال بأن ذلك الشهر كان شهر رمضان . رواه ابن اسحق . وقال يتعلق قوله : بالليالى ذوات العدد بقوله يتحنث ، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل . وهو بالنسبة إلى المدد التى يتخللها مجيئه إلى أهله . ( 1 ) بل وكان يتزود لمثلها ، فما دجرت – أى ما ضاق صدرها – أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها وما أحبطت منعوياته وما كانت فى يوم من الأيام عقبة فى طريق بحثه عن الحقيقة الروحانية التى بداخله وهو الوصول بالتدبر ، والتفكر فى خالق السماوات والأرض فى بيئة مشركة ألفت عبادة الأوثان من دون الله ، وما كان يُعرف بأن هناك رسالة قادمة ، ( فإن اعترضت على ذلك يومئذ فهى معذورة ) وبالرغم من ذلك كانت تزوده لمثلها أى لمثل المدة التى كان يتركها وحدها ويذهب للتعبد إلى ربه سبحانه وتعالى فى غار حراء .
وهذا الصبر منها على بعد النبى عنها كل هذه الليالى لدليل على ثقتها به وتفانيها فى الإخلاص إليه وفى وصوله إلى مبتغاه وهو معرفة الحقيقة فهى بذلك تضرب أروع الأمثلة لنساء هذه الأمة ، وظلت رضى الله عنها هكذا حتى تضرب لنا مثالاً أخر أكثر من هذا روعة وتفانياً وهو يوم الحدث الأكبر الذى ذكرناه فى بداية هذه الرسالة بنزول الوحى على رسول الله ، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء ، فجاءه المَلك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذنى فغطنى الثالثة ، ثم أرسلنى فقال : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾ وكانت هذه هى ساعة الحسم وهى اللحظة التى غيرت وجه التاريخ ، بل غيرت وجه البشرية جمعاء وهى لحظة نزول الرسالة من رب الأرض والسماء على رسول الله وعليك أن تضع نفسك مكان رسول الله فماذا أنت فاعل إذا حدث لك ذلك فى صحراء جرداء بل وفى غار لا يتعهده أحد فما كان منه إلا أن روى لخديجة رضى الله عنها ما حدث من ضم الملك له وتشديده عليه وذلك فى قوله :
" فغطنى " ثم قال لها " لقد خَشيتُ على نفسى " أى خفت على نفسى من الموت وقيل المرض وهذا أصح ما ورد فى تفسير هذه الكلمة كما جزم بذلك ابن حجر فى الفتح ( 2 ) وهنا يتجلى المشهد الثانى فى هذه الواقعة المباركة فانظر ماذا قالت رضى الله عنها :لم تقل لا تذهب إلى هناك مرة ثانية ، ولم تقل له بأنى كنت لا أرغب فى ذهابك وتركى وحدى ولم تأتيه بعراف أو دجال ليتكهن لها بما حدث لزوجها ، وما كذبته ، ولكن سطرت لنا حروفاً تكتب بماء الذهب لتتعلم نساء هذه الأمة ، فماذا قالت :
_________________________
( 1 ) فتح البارى ( جـ 1 / 32 )
( 2 ) فتح البارى ( جـ 1 / 33 )
قالت رضى الله عنها : " كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكَلَّ ، وتَكسبُ المعدوم ، وتَقرى الضيف ، وَتُعين على نوائب الحق " .
يقول الأمام النووى رحمه الله :
أم قولها ( كلا ) فهى هنا كلمة نفى وإبعاد ، وهذا أحد معانيها ، وقد تأتى كلا بمعنى حقاً ، وبمعنى ألا التى للتنبيه ، يستفتح بها الكلام . ( 1 )
أى لن يخزيك الله أبداً فإن فيك من الصفات الحميدة وكرم الأخلاق ما ليس فى غيرك من أهل الأرض جميعاً ثم صارت تعدد له من مناقبه التى لا تحصى فذكرت له على سبيل المثال لا الحصر " إنك لتصل الرحم " وأما صلة الرحم ، فهى الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول ، فتارة تكون بالمال ، وتارة بالخدمة ، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك مما يوصل به الرحم من أفعال الخير جميعه . وأما قولها : " وتحمل الكل " أى تحمل المثقل من الناس ، وهو الفقير والمسكين ، واليتيم ، والمحتاج الذى لا يجد ما ينفقه ومنه قوله تعالى : ﴿ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ ﴾ النحل 76 . وأما قولها : " وتكسب المعدوم " أى تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك – ذكر ذلك ابن حجر فى الفتح – وهذا يدل على سخائه وكرمه .
وأما قولها " وتقرى الضيف " أى تكرمه ، وتضيفه ، وتغدق عليه بما تملك وهذه كانت أيضاً من شيمه وأما قولها : " وتعين على مصائب الحق "
يقول الإمام النووى رحمه الله : النوائب جمع نائبة ، وهى الحادثة ، وإنما قالت نوائب الحق لأن النائبة قد تكون فى الخير وقد تكون فى الشر . قال لبيد :
نوائب من خير وشر كلاهما فلا الخير ممدود ولا الشر لازب
قال العلماء رضى الله عنهم : معنى كلام خديجة رضى الله عنها : إنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل ، وذكرت دروباً من ذلك . وفى هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء ؛ وفيه مدح الإنسان فى وجهه فى بعض الأحوال لمصلحة نظراً . وفيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمره وتبشيره ، وذكر أسباب السلامة له . وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضى الله عنها ، وجزالة رأيها ، وقوة نفسها ، وثبات قلبها ، وعظم فقهها ، والله أعلم . ( 2 )
فإذا تدبرتى أختى المسلمة هذه الكلمات الأخيرة للإمام النووى من الثناء على أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها لوجتى عظم ، وجلال ، وكمال هذه الوقفة الرائعة فى هذا التوقيت الحرج لرسول الله وهو فى هذه الحالة من الفزع والخوف ولعلمتى أن الزوجة المسلمة يجب أن تتخذ من هذه المواقف دروساً مستفادة تعينها على أن تكون امرأة مسلمة ، ذو رجاحة فى العقل ، وحصافة فى الفكر ، وسلوك مستقيم . فوالله ( لن يستقيم العود والجزع أعوج ) .
_________________________
( 1 ) صحيح مسلم بشرح النووى جـ 2 / 376
( 2 ) صحيح مسلم بشرح النووى جـ 2 / 377
ولم تكتفى أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها عند هذه الوقفة المباركة ، وإنما أرادات أن تعزز طمئنة رسول الله فتأخذه إلى ابن عمها – ورقة بن نوفل – فقصت عليه ما حدث لرسول الله ، وهنا تأتى البشارة العظمى من ورقة بن نوفل فيبشر خديجة ، ومعها رسول الله بأن هذا هو الناموس الأكبر ( هذه هى الرسالة وقد أنزلت على زوجك ، وأنه سيكون نبى هذه الأمة ) .
فيا سعادة خديجة ، ويا فرحتها . أصبح زوجها بنى هذه الأمة الميمونة وهنا يتحول الأمر لديها رغم هذه الفرحة إلى مهمة أخرى ، وهى تحمل عبء هذه الرسالة بجانب رسول الله حيث علمت من ابن عمها بأن النبى سَيُعادى وسَيُؤذى بل وسَيُخرج من بين أهله وقومه وأحب البلاد إليه وهى ( مكة ) زادها الله تعظيماً وتشريفاً وذلك فى قوله " هذا الناموس الذى نزَّل الله على موسى ، ياليتنى فيها جزعاً ، ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله أو مخرجىّ هم ؟ قال نعم ، لم يأتى رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودىَ ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً"
فالنبى فى هذا الوقت يحتاج إلى من يدعمه ، ويقف بجانبه فكانت رضى الله عنها وأرضاها أول من أسلم لله رب العالمين وشهدت بنبوة رسوله الكريم فكان ذلك أول دعم بعد نزول الوحى ثم توالت التضحيات فكانت تؤازره بجهدها وبفكرها وبحبها وبمالها وحنوها على رسول الله حتى شهد لها بذلك .
فتعالوا نرى ما روته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأخذتنى الغيرة . فقلت : هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها ، فغضب ، ثم قال : لا والله ، ما أبدلنى الله خيراً منها ، آمنت إذ كفر الناس ، وصدقتنى إذ كذبنى الناس ، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس ، ورزقنى الله منها الولد دون غيرها من النساء ، قالت عائشة : فقلت فى نفسى لا أذكرها بعدها بسبة أبدا . ( 1 ) وفى رواية الإمام أحمد قالت عائشة : فقلت : ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق . وفى رواية حمراء الشدقين ، فرد النبى على نحو ما جاء فى الحديث السابق .
فانظرى أختى المسلمة بعين التأمل ، والتدبر فى هذه الكلمات من فِىّ رسول الله وهو يمدح من ضَََرَبت أروع الأمثلة لنساء هذه الأمة إذ يقول النبى لعائشة رضى الله عنها : " لا والله ما أبدلنى الله خيراً منها " . فلم تكن هذه الكلمة من فراغ أو من عدم وإنما من صنيعها برسول الله فعن على رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول :" خَيرُ نسائها مريمُ بنتُ عمران ، وخير نسائها خديجة بنتُ خويلد "( 2 ) أى خير نساء الأرض مريم بنت عمران فى زمانها وخيرهم فى هذا الزمان خديجة رضى الله عنها .
_____________________
( 1 ) الحديث رواه الطبرانى فى معجمه الكبير جـ 23 / 13 حديث رقم 12 ، 22 وفى كنز العمال برقم 34349 ورواه أحمد فى مسنده بسند حسن جـ 17 / 450 ( طبعة دار الحديث ) برقم 24745 . وروى مسلم جزءً منه جـ 15 / 189 حديث رقم 6232 ( نووى ) وكذا البخارى جـ 7 / 166 برقم 3821 ( فتح البارى ) وذكره ابن حجر فى ( كتابه الإصابة فى تمييز الصحابة )
( 2 ) رواه مسلم جـ 15/191 ( نووى ) والبخارى جـ 7/165 ( الفتح ) والترمذى فى المناقب
ثم يواصل ذكر مناقبها فيقول : " آمنت إذ كفر الناس وصدقتنى إذ كذبنى الناس " وفى رواية : " آمنت بى إذ كفر الناس " فكانت كما ذكرنا من قبل أول من آمن من النساء ، وقيل بل كانت أول من آمن ببعثة رسول الله من أهل الأرض قاطبة حيث كانت هى التى تعينه على التعبد فى غار حراء بل وترسل فى إثره من يحرسه ويتعهده لئلا يصيبه مكروه وتزوده بالمؤنة من طعام وشراب فكان فى إعلانها الإعتراف ببعثة رسول الله والإيمان به دفعة قوية له خاصة لما لها من منزلة عظيمة عنده وفى قومها . فما ترددت طرفة عين ، وما قالت مثل ما قال قومها أنترك دين أبآئنا لدين محدث . ومن ينسى يوم أن أخبرها بخبر جبريل عليه السلام فقالت : أبشر يا ابن عم ، واثبت ، فوالذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة ( 1 ) فى نفس الوقت الذى كذبه قومه ، وكفروا بما أنزل إليه فتارة يقولون شاعر فيرد الله عليهم بقوله :
﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ﴾ الحاقة 41 . وتارة يقولون مجنون ومنه قولهم : ﴿ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون ﴾ الصافات 36 وتارة يصفونه بأنه ساحر وذلك فى قوله تعالى :
﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ ص4 . ومنه قولهم : ﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ المدثر24. ثم يواصل ذكر مواقفها المشهودة التى تترجم واقعاً عملياً لنساء الأمة ليتخذوا منها منهج حياة . فيقول : " وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس " يا الله يا الله يا الله . ما هذا يا نساء أمة الحبيب المصطفى أتقرئون معى ما يخرج من فِىّ رسول الله عن خديجة رضى الله عنها . بذلت من أجله الغالى ، والنفيس ولم تبخل عليه بمالها الذى حُرِمَه ممن حوله من الناس فماذا بذلتى أيتها الأخت الحبيبة ، وأنتى أيتها الأم الكريمة ابتغاء نصرة منهج رسول الله وهل وقفتى بجانب زوجك إن كان داعياً لله . وإليك أضرب مثلاً أختى المسلمة حينما حاصر أهل مكة بنو هاشم ، وبنو عبد المطلب فى شعب أبى طالب ثلاث سنوات لا يخرجون منه ، فلا هم يبتاعون من أحدٍ من قريش ولا يبتاع أحدٌ من قريش منهم بمفهوم اليوم ( مقاطعة ) وهنا نجد الوقفة الحاسمة بالنفس والمال والحنو على رسول الله من الطاهرة خديجة رضى الله عنها ، والتى تتخذ على الفور قراراً بالخروج مع الحبيب حتى تعانى ما يعانيه ، وتصبر كما يصبر ، وتتحمل كما يتحمل ، وتجوع كما يجوع وتعطش كما يعطش رغم أنه قد علت بها السن ، وناءت بأثقال الشيخوخة ، و رغم الثكل ، والاضطهاد ، صابرة مع زوجها النبى ومن معه من صحبه وقومه ، على عنت الحصار المنهك ، وظلم وجبروت وثنية أهل الجاهلية العمياء .
_____________________
( 1 ) سيرة ابن هشام جـ 1 / 237- 238
فكان الجزاء من صنف العمل فتعالوا لنرى بما بُشِّرت به أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها وأرضاها فنجد ما رواه البخارى فى صحيحه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال : " أتى جبريلُ النبىَّ فقال : يارسول الله ، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربِّها ومنّى وبشرها ببيت فى الجنة من قصب ، لاصخب فيه ولا نصب " . ( 1 )
فتأملى معى أختى المسلمة :
يأتيها السلام من ربها – جل وعلا – ومن جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حتى تقر عينها بصنيعها لرسول الله . بل ويبشرها ربها على لسان جبريل عليه السلام ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب .
فكانت مكافأتها فى الدنيا كما يقول ابن حجر ( رحمه الله ) : أن النبى لم يتزوج فى حياتها غيرها ، وساق حديث مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت : " لم يتزوج النبى على خديجة حتى ماتت " ( 2 ) . وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين ، لأنه عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاماً وهى نحو الثلثين من المجموع ، ومع طول المدة فصان قلبها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذى ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك ، وهى فضيلة لم يشاركها فيها غيرها . ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان ، فَسَنَّت ذلك لكل من آمنت بعدها ، فيكون لها مثل أجرهن . ( 3 )
وأما مكافأتها يوم القيامة ، فبيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ، ولا نصب . أى بيت من لؤلؤة مجوفة كالقصر المنيف وقيل قصب من ذهب منظوم بالجوهر . ( لاصخب فيه ) أى لا صوت مرتفع فيه ، ولا ( نصب ) أى لا تعب فيه ولا عناء .
وأما المنقبة الرابعة فى هذا الحديث المبارك فهى قوله : " ورزقنى الله منها الولد دون غيرها من النساء " فمما لا خلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار أن جميع أبناء النبى كانت من خديجة رضى الله عنها إلا ابراهيم كان من جاريته مارية ، والمتفق عليه من أولاده منها : القاسم وبه كان يكنى ، مات صغيراً قبل المبعث أو بعده وبناته الأربع : زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة وقيل كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة ، وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له الطاهر والطيب ومات الذكور صغاراً باتفاق .
_____________________
( 1 ) الحديث رواه البخارى جـ 7 / 166 ( فتح البارى ) كتاب مناقب الأنصار ، كما رواه مسلم فى صحيحه جـ 15 / 195 ( نووى ) كتاب الفضائل
( 2 ) تفرد به مسلم جـ 15 / 197 ( نووى ) كتاب الفضائل .
( 3 ) فتح البارى بشرح صحيح البخارى جـ 7 / 170 ، 171 بتصرف يسير .
إحسانه وثناءه عليها بعد وفاتها
كان النبى لايكف عن ذكر خديجة رضى الله عنها بكل الخير ولم ينسى طرفة عين معروفها ولا تضحياتها معه فى صدر الدعوة بما هى أهله حتى قالت عائشة رضى الله عنها : " ما غرت على امرأةٍ ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله إياها . قالت : وتزوجنى بعدها بثلاث سِننَ ، وأمرهُ ربه عزَّ وجلَّ – أو جبريل عليه السلام – أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب " . ( 1 )
وعنها أيضاً رضى الله عنها قالت : " ما غرت على أحدٍ من نساء النبى ما غرت على خديجة وما رأيتها ، ولكن كان النبى يُكثِرُ ذكرَها ، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها فى صدائق خديجة ، فربَّما قلت له : كأنه لم يكن فى الدنيا امرأةٌ إلا خديجة ؟ فيقول : أنها كانت وكانت ، وكان لى منها ولد " . ( 2 )
فكان يكثر حتى من الإحسان إلى صاحبات خديجة رضى الله عنها من كثرة حبه إياها فكان " لا يسأم من ثناء عليها ، واستغفار لها " كما عزا ذلك ابن حجر فى الفتح للطبرانى عن عائشة رضى الله عنها . وعند مسلم قال لعائشة رضى الله عنها " إنى قد رُزِقتُ حُبَّها " ( 3 ) فإذا ما نظرنا نظرة إمعان إلى صنيع رسول الله لخديجة رضى الله عنها حتى بعد وفاتها لعلمنا أن ذلك ما أتى من فراغ ، وإنما كان ذلك لما فعلته ، وما بذلته ، وما ضحت به ، وما أنفقته من غالى ، ونفيس ابتغاء مرضاة ربها ونصرةً لمنهج ورسالة نبيها وزوجها صلى الله عليه وسلم .
ماتت رضى الله عنها وأرضاها قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح ، وقيل بأربع ، وقيل بخمس . وقالت عائشة رضى الله عنها : ماتت قبل أن تفرض الصلاة . وقال الواقدى : توفيت لعشر خلون من رمضان وهى بنت خمس وستين سنة ، ودفنت بالحجون ، ونزل النبى فى حفرتها ولم تكن شرعت الصلاة على الجنائز . ( 4 ) وقد ضربت لنا أروع الأمثلة وتركت منهجاً تسير عليه نساء هذه الأمة المباركة ، أفما آن لك أختى المسلمة أن تحزى حزوها ، وأن تتمثلى ، وتصنعى صنيعها ، وأن تضحى تضحيتها ، وأن تبذلى الغالى والنفيس كما بذلت أمك خديجة رضى الله عنها من قبل وعانت ما عانته فى سبيل رفعة هذا الدين والدفاع عن منهج النبى .
فقد صدق من قال :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
فالأمة الإسلامية اليوم فى أمس الحآجة إلى المرأة المسلمة الحقة فى ظل الحرب الطاحنة على الإسلام والمسلمين من قبل أعداء الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها _____________________
( 1 ) رواه البخارى جـ 7 / 166 ( الفتح ) وروى مسلم جزءًا منه جـ 15 / 197 ( نووى )
( 2 ) رواه البخارى جـ 7 / 166 ( الفتح ) كتاب مناقب الأنصار
( 3 ) رواه مسلم جـ 15 / 197 ( نووى ) كتاب الفضائل والترمذى فى كتاب البر والصلة برقم : ( 2017 ) وروى البخارى طرفاً منه فى مناقب الأنصار ( باب تزويج النبى خديجة )
( 4 ) الإصابة فى تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر جـ 7 / 567
وانتبهى أختى المسلمة :
فانظرى رغم غيرة عائشة رضى الله عنها من أم المؤمنين خديجة وما اجتمعت معها فى بيت واحد ولا حتى تزوجها النبى وخديجة معه ، إلا أنها حدثت بكل ما سمعته من رسول الله من الثناء على خديجة رضى الله عنها حتى حبه أياها وحب أصاحبها إكراماً لها فما منعتها غيرتها من خديجة أن تحدث بكل ما علمته من الخير الذى بُشرت به خديجة رضى الله عنها ، وهذه يجب أن تتعلم منها المرأة المسلمة فلا تجد خيراً على أختها المسلمة إلا نشرته ، وما تجد شراً إلا سترته حتى وإن كانت من ضرائرها كما يزعمون . ولقد استحضرنى موقف قرأته لأحد زوجات مشايخنا المجاهدين فى سبيل الدعوة إلى الله وقد تزوج عليها فقالوا لها : ماذا تفعلين مع ضُرتك فقالت : ومن هى ضُرتى قالوا لها : الزوجة الثانية لزوجك . فقالت : مقولة تعلم بها نساء الأمة . قالت : " الضُرة هى من يأتينى منها الضَررَ " وأما هذه فهى زوجة لزوجى كما أنى زوجة له ولا يأتينى منها ضرر ، وهى أخت مسلمة لى فى الله . فلماذا تسمونها ضُرة .
فعليك أختى المسلمة أن تعيدى النظر فى قوة إيمانك وأن لا تغترى بما يفعله السفهاء ممن ينتسبون إلى هذه الأمة من دعاة السفور والتفرنج والعلمانيين ومن على شاكلتهم فوالله الذى لا إله غيره لن يغنى عنك هؤلاء من الله شيئاً يوم القيامة .
وأختتم هذا الجزء الأول من هذه الرسالة بعدم اتباع أهل الهوى والفجور وآمركم باتباع منهج رسول الله وآله بيته الكرام وصحابته الأخيار ومن اتبعهم إلى يوم الدين ولا تنسوا بأن الله جل وعلا حذرنا من اتباع أهل الباطل ووضح لنا موقف هؤلاء وهؤلاء يوم القيامة بقوله : ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِك يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار ﴾ ِ البقرة 166 ، 167
وقال تعالى : ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون ﴾ البقرة َ281
نلتقى قريباً فى الجزء الثانى من :
( رسالة مهمة إلى نساء الأمة )
بأذن الله تعالى
الشيخ /
الناغى بن عبد الحميد العريان