نقصد بالتوحيد العملى كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كالصلاة والزكاة وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود وشكر النعم والرضاء بالقضاء والقدر، وهو العبادة في الحقيقة، قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي ) الذاريات 56، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة (الترمذي وأحمد.
ولئن كان العلماء قد أفاضوا الحديث عن التوحيد الاعتقادي (معرفة وحدانية الله تعالى ) لكونه المدخل الأول للإسلام، فقد أغفل كثير منهم الكلام عن التوحيد العملي، ففهم العامة أن التوحيد الاعتقادي وحده كاف في النجاة بين يدي الله عز وجل، وإن لم يوحدوا توحيدا عمليا، وفاتهم أن مشركي العرب كانوا يؤمنون بالله تعالى ولم ينقذهم هذا الاعتقاد من العذاب لأنهم أشركوا في العمل، وأن التوحيد الكامل اعتقاد وعمل؛ وهذا ما عليه مدرسة أهل الحديث.
إن مدرسة أهل الحديث في حقيقتها ليست فرقة من الفرق، ولكنها هي الإسلام في صفائه ونقائه كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه تلامذته من السلف الصالح صحابة وتابعين؛ وذلك لأنها تعتمد على الكتاب والسنة النبوية الصحيحة، قولية وعملية وإقرارية، في الاعتقاد والعمل.
وقد كانت عقيدتهم حقا بين باطلين، الباطل الأول هو باطل المشبهة والمجسمة والحشوية الذين يشبهون الله تعالى بمخلوقاته، والباطل الثاني هو قول المعطلة الذين يعدون تصرفات الله غير حقيقية، فإذا وردت آية فيها مثلا أن الله صنع بيده أو نزل إلى سماء الدنيا، قالوا إن الله لا ينزل وإن اليد هي القدرة، وفي هذا التفسير تعطيل للذات عن صفاتها.
أما الحق الذي كان عليه أهل الحديث فهو أنهم لا يشبهون ولا يعطلون، فإذا وردت آية أو حديث في أحدهما ما يوهم بالتشبيه، كالاستواء على العرش أو النزول إلى السماء الدنيا أو يد الله، نزهوا الله تعالى عن أن يكون استواؤه كاستواء المخلوق، أو نزوله كنزول المخلوق، أو يده كيد المخلوق؛ كما أنهم لم ينكروا استواء الله أو نزوله أو يده، ولم يعطلوا الذات عن هذه الصفات، بل آمنوا بها وفوضوا أمرها إلى الله تعالى، وقالوا إنه تعالى استوى استواء يليق به وكما يعلمه، وله نزول يليق به ليس كنزول المخلوقات، وله يد تليق به تخالف يد المخلوقات، وهم في هذا الاعتقاد يثبتون النصوص كما وردت بدون تكييف أو تحديد( إثبات وجود لا إثبات تكييف أو تحديد)، وما ذالك إلا لأنهم يحكمون فهم قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) الشورى 11.
قال الإمام مالك عندما سئل عن الاستواء في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) الأعراف 54: " الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"
وقال أحمد: " استوى كما ذكر لا كما يخطر للبشر"
ومن المعلوم أن العقيدة الإسلامية ظلت نقية في صدر الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لدى السلف الصالح، وهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين طيلة ثلاثة قرون حددها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل أي الناس خير؟ بقوله: " قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " مسلم ؛ ثم لما اتسعت الفتوحات الإسلامية اختلطت عقيدة بعضهم بالثقافات الأجنبية وثنية ونصرانية ويهودية وفلسفية، ونشبت معارك المنافسة على السلطة فظهرت الفرق والشيع، ولكن مدرسة أهل الحديث بقيت صامدة وبعيدة عن أي خلل أو انحراف. وكان مما عصمها تشبثها بعد القرآن الكريم بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سميت مدرسة أهل الحديث، وكان للإمام مالك رضي الله عنه فضل كبير في هذا الأمر، لأنه أول من دون كتابا جمع فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلقاه المسلمون وحافظوا عليه وورثوه لمن بعدهم إلى عصرنا هذا، وهو كتاب " الموطأ"، فكان بذلك أول موثق لهذه المدرسة وأبرز زعيم لها.
لقد أطلق على هذه المدرسة تسميات كثيرة مثل مذهب أهل السنة، وأهل السنة والجماعة، والسلفية، ولكن الصواب أن يطلق عليهم فقط " المسلمون " تبعا لمنهجهم في الاعتقاد والعمل، وامتثالا لما سماهم به القرآن الكريم (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) آل عمران 102 ،ولما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها، المسلمين المؤمنين عباد الله " جامع الصحيح للسيوطي .
هذه المدرسة ليس بين أهلها اختلاف يذكر في التوحيد الاعتقادي، وإنما الخلاف داخلها في الأحكام الشرعية العملية، تبعا لاختلاف مناهج الاستنباط لدى الفقهاء، وهو أمر طبيعي وعادي وإيجابي كما يعرف ذلك المجتهدون الفقهاء، وأهم الشعب الاجتهادية ( المذاهب) في هذه المدرسة:
1 – الحنفية( نسبة إلى أبي حنيفة)، وأصول اجتهادهم الكتاب والسنة والقياس والإجماع والاستحسان والرأي، ومن أقطاب هذا الاتجاه تلامذة أبي حنيفة : محمد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وزفر بن الهذيل.
2 – المالكية( نسبة إلى مالك)، وأصول مدرستهم الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة وسد الذرائع، ومن علمائهم ابن القاسم وابن عبد البر.
3 – الشافعية ( نسبة إلى الشافعي)، وأصول مدرستهم الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
4 – الحنابلة ( نسبة إلى أحمد بن حنبل )، وأصول مدرستهم الكتاب والسنة، مع تمسك بالنصوص شديد، وفرار من الرأي والحيل الشرعية والاستحسان، أما القياس فلا يستعملونه إلا عند الضرورة، ويفضلون عليه خبر الآحاد أو الخبر الضعيف. ومن هذه المدرسة ابن تيمية وابن القيم.
5 – الظاهرية( نسبة إلى داوود الأصبهاني الظاهري)، ومنهجهم الأخذ بظواهر النصوص وحرفيتها، ورفضهم لإجماع ما بعد الصحابة، وللقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع؛ وأصول مدرستهم فقط هي الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، كما يعدون أحاديث الآحاد قطعية مثل النصوص المتواترة، ويعملون بها في العقائد والأحكام العملية، ومن أبرز فقهائهم ابن حزم الأندلسي.